إن التقيت بك للمرة الأولى، فسأسألك بعد التحية: “من أنت؟” فبمَ تجيبني؟
إن قلت لي: فلان ابن فلان، فجوابك في غير محلّه. وسيطوي اسمك النسيان من ذاكرتي قبل أن
أبرح مكاني. سامحني.
إن قلت لي: والدي كذا ووالدتي كذا واولادي كذا وكذا؟ سأبتسم وأقول: وهل سألتك عنهم؟!
إن قلت لي: ولدت في سنة كذا ودرست كذا ثم امتهنت كذا، فقد اُحاول أن أبدي اهتمامي، لكني لا
أعدك أن أمكث أكثر من دقائق، ثم أمضي إلى شخص آخر، فلربما آخذ منه فكرةً أفضل عنك.
هل سألت نفسك يوماً: من أكون؟
إن حسبت أنك الاسم الذي تحمله فأنت واهم. فما أسماؤنا، رغم اعتزازنا بها، إلا شارات كأرقام
السيارات تفيد في تمييزنا اعتبارياً بين البشر.
وإن حسبت أنك الجسم الذي خلقك الله عليه، وتصرف نصف وقتك بالاعتناء به تغذيةً ورعايةً ونوماً،
فما جسمك إلا وعاءٌ يحتويك روحاً وفكراً، وهو منفصل كلياً عن حقيقتك.
وإن ظننت أنك تتميز عن الآخرين بسجاياك وأخلاقك، فتلك ربع الحقيقة، وأغلب الحقيقة هي ما يراه
الآخرون وليس ما تراه أنت في نفسك. وقد يكون بينهما بون شاسع.
إذاً قلّي بالله عليك من أنت؟
وكيف ستعرّفني عن نفسك إن كنت أنت لا تعرف نفسك؟ فإن كنت تتحدث اللغة نفسها وبالطريقة
نفسها وتحب المواضيع نفسها التي يتحدث بها الآخرون وتحمل الآراء نفسها؟ فمن تكون؟
بالنسبة لي، ما أنت إلا نسخةً من البيئة التي ولدت فيها. لكن العجب حين يلتقي شخصين من بيئتين
مختلفتين كلياً، يحسب كلّ منهما الآخر كائناً عجيباً هبط من القمر!
ليس لأننا ورثنا العقائد عينها والعادات ذاتها والطبائع نفسها دون أن يُسمح لنا بالتساؤل فيها،
ودون أن نسمح لأولادنا بمناقشتها، ودون أن نفتح مع رفاقنا باب الحوار حولها، حتى صرنا نسخاً
من بعضنا بأشكالٍ ومسميات مختلفة. ليس لذلك وحسب، ولكن لأنه يتمّ قصفنا يومياً بوابلٍ من
المعلومات الموجهة من قبل صانعي الإعلام توجيهاً جيداً ومقنعاً. حتى جاز لنا أن نعيد صياغة
المأثور: “قل لي من تصاحب أقل لك من أنت” إلى: “قلّ لي من تتابع أقل لك من أنت”!
الخطباء والسياسيون يعزفون لك على الأوتار العاطفية من طرفٍ خفي وأنت لا تدري. وسائل الإعلام
تغذي أهواءك وميولك وآراءك وتوجه انفعالاتك باتجاهٍ لا يترك لك مجالاً قط للتساؤل في صحته!
اسمح لي ان اُواجهك بالحقيقة المُرّة: أنت ممسوخ الشخصية. أنت “كوبي – بيست” ليس إلا!
أنت نسخة من “الجزيرة” إن كنت تتابعها باهتمام. وأنت نسخة من “القرني” إن كنت تعشق
محاضراته، وأنتِ نسخةٌ من زوجك إن كنتِ تعبدينه. وجلّنا مع الأسف كذلك!
يقتلني أن أرى الملايين يتابعون الإعلامي الفلاني والداعية الفلاني بالفيسبوك، فيما لا أجد لبعض
المفكريين الرائعين سوى العشراتٍ أو مئات المتابعين! عجباً كيف ينساق الناس إلى هؤلاء النجوم
مكدّسين لهم الإعجابات والمشاركات دونما تردّد، فيما هم ينأون عن celebrities والمشاهير وال
المغمورين، بل وينهون عنهم! هل هي عصبيّة انتماء أم أزمة ثقة أم قلة ثقافة أم فقدان هوية؟!
فهلا تساءلت مع نفسك بصدق: من أنا؟
لن تصبح لك ال”أنا” الخاصة بك إلا بتغذية أفكارك ورعاية روحك بدل التركيز على تغذية جسمك
والإعتناء ببشرتك. لن تبني شخصيتك إلا حين تقرأ مواضيع لم يقرأها غيرك. وتحضر منتدياتٍ فكرية
أو أدبية لم يحضرها سواك. لن تبني شخصيتك المستقلة إلا حين تسعى للاستقلال بذاتك بدل أن
تتبنى موقف هذا وتشتري رأي ذاك.
لتكن لك دائرة المعارف الخاصة بك، ولتنظر من زاوية مختلفة. فلن تكسب كثيراً حين تجد من يشاطرك
الرأي بل حين تجد من يغذي فكرك برأيٍ جديد ونظرة جديدة ما خطرت لك من قبل.