كيف تعافت هيفاء من مشاعر الغيرة؟


كيف تعافت هيفاء من مشاعر الغيرة؟
كيف تعافت هيفاء من مشاعر الغيرة؟

هيفاءُ اسمٌ على مسمى، جمعت بين جمال الشكل ورجاحة العقل وعلوّ الهمّة. نشأت في أسرةٍ ميسورة اجتهدت في رعايتها وبالغت في الإطراء عليها، مما جعل ثقتها بنفسها لا تدانيها النجوم في علوّها. غير أن شيئاً واحدا بدأ ينغّص حياتها مؤخّراً، وهو شقيقتها الأصغر حسناء، التي فاقتها في الحسن وإن لم تبلغ مستواها في الدراسة. فقد ألقى الله عليها سكينةً ظاهرةً ووجهاً صبوحاً، جعلا أفئدة الناس تهفو إليها، والمحظوظ منهم من سمحت حسناء له أن يتودّد إليها.

خالج هيفاء شيئاً من مشاعر الامتعاض تجاه شقيقتها. ربما لأنها توهّمت أن حسناء هي الأقرب إلى قلبَي والديها. أو لأنها شعرت بالغيرة من طلّة شقيقتها التي تأسر القلوب، بعد أن تناهى إلى سمعها أن بعض الطلبة يكتبون الأشعار في حسنها خاصّة.

فبدأت تتهرّب من مشاعر الغيرة التي أخذت تزداد يوماً بعد يوم، بالانغماس في الدراسة. إذ وفّرت لها الدروس هدفاً أسمى وأبعد بكثير من تلك التفاهات اليومية التي كانت تنهال على مسامعها. وحاولت جهدها أن تحقّق المرتبة الأولى في صفّها. يخال إليّ أنها كانت في وعيها اللاشعوري، تصبو إلى استعادة ما بدأت تفتقده من إعجاب الأهل والمعلّمات والتلاميذ. لكنّ الأمر لم يكن سهلاً.

في الصفّ، كانت وفاء بارعةً في القواعد والأدب والإنشاء. ورياض كان الأوّل بلا منازعٍ في حبّه للفيزياء. وامتاز حكيم عن غيره في الكيمياء والأحياء. وكانت سناء باهرةً بالفنون والرسم والغناء. وكلّما نال أحدهم درجةً عالية أو تصفيقاً أو ثناء، كان ذلك مدعاةً لإثارة أشجان هيفاء. فراحت تشتكي في البيت من حظوظ زملائها وزميلاتها في نيل العلامات. غير أن أمّها لم تك تسمح لها بالانتقاص من تفوّقهم.

لم يلاحظ المعلّمون والمعلّمات معاناتها، لأنها كانت مازالت قويةّ إلى الحدّ الذي تستطيع معه التظاهر بعكس مشاعرها. لكنّ والدتها لاحظت أن هيفاء بدأت تصبح أكثر نزقاً من ذي قبل. وأنها باتت تميل إلى التململ كلّما طلبت مساعدتها في أشغال البيت. ولأنها كانت فطِنةً كفاية، لم تشأ مواجهتها وسؤالها عن سبب تغيّرها فتضعها في موقفٍ دفاعيّ عقيم، بل آثرت الانتظار لمجيء الفرصة المناسبة وحين تكونان على انفراد.

وحضر ذلك اليوم أسرع مما كانت تنتظره الأمّ. فحين جاءت حسناء البيت يوماً تتباهى بالإعجاب الهائل الذي نالته في العرض المدرسي المسرحي. قاطعتها هيفاء قائلة:
– لم تنجحي لمهارةٍ لديك في التمثيل والإلقاء، بل لجمالك الذي فتن الحاضرين عن طريقة الأداء.
وللحقيقة، لم تهتمّ حسناء بكلام شقيقتها بل حسبته لسذاجتها نوعاً من الإطراء، لكنّ كلامها أثار انتباه الأم التي ربطت الأمور ببعضها. فطلبت من حسناء الذهاب للسوق لإحضار بعض الخضار، كي تنفرد مع هيفاء في حوار هادئ:
– حسبتك ستبتهجين لحسناء وتشاطريها فرحتها.
بقيت هيفاء صامتة.
– حين كنت في عمُرك، علّمتني أمي أن أظهر تعاطفي مع الناس. فأفرح لفرحهم وأحزن لحزنهم.
– ومن قال لكِ إنّي لست مبتهجةً لأجلها؟
– فهلا أظهرتِ لها ذلك ببعض عبارات التشجيع؟ ألا يسعدك أن تتفوّق شقيقتك؟
– على العكس أمي. لكني كنت أتمنى أن تتفوق في دروسها وليس في التمثيل!
– وأنا أودّ ذلك أيضاً. لكن الإلقاء ومخاطبة الجمهور من المهارات الشخصيّة المهمّة أيضاً. ولو كنتِ أنت مكانها لفرحتُ لك أيضاً.
– هممم .. أشكّ في ذلك.
– ومالذي يجعلك تشكّين في ذلك؟ قالتها الأم باستغرابٍ شديد.
– لا أدري. غالباً ما أشعر بأنك وبابا تفضّلانها علي.

هنا عرفت الأم مصدر قلق ابنتها الحقيقي وعذابها. صمتت هنيهةً ثم قالت:
– تماماً كما يفضّل المعلمون زملاءك وزميلاتك عليكِ دون وجه حق. أليس كذلك؟ عموماً لا ألومك يا هيفاء. لو كنتُ مكانك لشعرت بالغيرة مثلك. لكن إن كان لا بدّ من مقارنة حالنا بغيرنا، فمن الأفضل أن تكون المقارنة مكتملة. دعينا نتوقّف عند كلّ الذين تغبطين عليهم تفوّقهم فننظر في سيرتهم؟ فما أنت ولا أنا ولا حسناء ولا أيّة واحدة معك في الصّف، إلا نتاج الصفات الوراثية التي رزقنا الله إياها، ونتاج التجارب التي مررنا بها. هل فكرت بذلك من قبل؟

– لا، لم أفكر بشيءٍ أصلاً. هي مجرد مشاعر غير إرادية.
– الإنسان كلّ لا يتجزأ يا بنتي، أصله وبيئته وهيئته وروحه وعقله وأهواؤه وسيرته. فإن تمنيتِ ما حازته غيرك، فكّري مليّاً في الحياة التي عاشتها بتفاصيلها كلّها. كأن تقبلي المرور بالتجارب التي مرّت بها، وتتخذي القرارات التي اتخذتها كلّها، وتقدّمي التضحيات التي قدّمتها، وترتدي شكلها وثيابها وتتقمّصي شخصيتها وطريقة معيشتها وتحيطي نفسك بأهلها وصديقاتها، ويستهويك ما يستهويها ويضيرك ما يضيرها. فإذا عقدتِ مقارنةً واقعية بينك وبين جميع الذين تعرفينهم بمن فيهم شقيقتك، يتوضّح لديك الأسعد حظاً بينكم. فتستحقّ أن تستبدليها بنفسك جملةً واحدة.

ذُهلت هيفاء من كلام أمّها، لكن وصول حسناء في الوقت المناسب أنقذها من عقد المقارنة. وفي الغد ظهرت مختلفةً عما كانت عليه البارحة. إذ بدت أكثر اعتداداً بشخصيتها وثِقةً بنفسها التي كادت تهوي إلى ظلام الحسد والغيرة. رحّبت بوالديها بابتسامةٍ عريضة. وأعدّت لهما وجبة الإفطار بنفسها. وهيّأت لهما جوّاً حلواً لطالما افتقداه. وحين جلسوا على المائدة. قالت لهما:
– أشعر أنّي محظوظةٌ بروحي وعقلي وشكلي، ومحظوظةٌ بكما أمي وأمي.
– بالطبع أنت محظوظةٌ حلوتي، غير أني أشعر بأني الأكثر حظاً، لأن عندي هيفاء رائعةً مثلك.
ضحكت هيفاء، وتورّدت وجنتاها خجلاً. هنا قال الأب:
– غير أني الأكثر حظاً منكما، لأنّ لديّ زوجةً ذكيّة وابنتين حسناوين. ثم تظاهر بأنّه لا يعلم ما جرى بينهما البارحة، قائلاً: ذِكرُ نِعم الله علينا وشكره عليها، من أحسن الوسائل التي تعود علينا بالراحة. هي سياحة للجسم ورياضة للروح وبهجة للقلب.

– لكن بابا ألمْ تكُ في شبابك تغار من أصدقائك؟ تساءلت هيفاء.
– علمتني أمي أنني إذا أردت أن أكون ناجحاً فعليّ أن أحيط نفسي بالناجحين. في جوّ كهذا، يصعب ألا تخالجني مشاعر الغيرة منهم إذا برزوا عليّ. لكنّي عرفتُ بالتجربة أنّ الأحبّة والأصدقاء هم عمقي وسندي، نجاحهم نجاحي وفشلهم فشلي. إذا نجح صديقي أكسب أمرين: طاقة السّعي وراء النجاح مثله، وتجربته فيما برز فيه، فأتعلم منه كيف أبرز فيه أيضاً. وإذا فشل يكفيه شرف المحاولة، فيما أكون أنا الخاسر الأكبر.

– همممم .. فكرة جيدة. قالت الأم، وسألت: ولكن حدثنا عن الغيرة بذاتها فلا تتهرب؟
– لاحظت أنّي حين أستغرب تفوّق بعضهم، ينتابني شعورٌ بالدونيّة نحوهم، وحين أستاء ينتابني شعور بأنّي فاشل. ولاحظتُ أنّ مشاركة الآخرين وجدانياً، تمنحني الإحساس بالأهمية والراحة. تشجيع الناس والثناء عليهم لهو أمر رائع، لأنه يحبّبهم بي ويقرّبهم إليّ. حين أدعمهم لاشك أنّهم سيدعموني، وحين أخذلهم سينفرون مني وقت حاجتي.

– ألم تفتقد تشجيع الآخرين لك في بعض الأوقات؟ سألت هيفاء.
– بلى. ولكني رأيت أمراً هاماً: حين أجد من هو بحاجةٍ إلى الدعم والتشجيع فأعينه على تحقيق ما يصبو إليه، تسري طاقةٌ خلّاقة في روحي أنا أيضاً، تحثّني على الاجتهاد لتحقيق ما أصبو إليه. فعلمتُ أن لديّ دوماً ما أمنحه لهم تماماً كما لديهم ما أكسبه منهم. قوّتي من قوّة المحيطين بي وضعفي في ضعفهم.


    Like it? Share with your friends!

    mm
    مهندس ومصمم غرافيك مهتم في الكتابة والانفوغرافيك المتعلقة بتقويم وبناء الذات بما يخدم المجتمع العربي