من أنا ؟!
بقلم الاختصاصي في الارشاد الاجتماعي ماهر شبانه
أحد الأشخاص في معرض حديثه نسمعه يقول :” أنا ” فعلت كذا وكذا , وحين كنت” أنا ” في ذلك المكان كنت أفعل كذا وكذا , أمر عادي جداً لنا أن نسمع هذه الكلمة “أنا ” ولكن لنسأل أنفسنا من جديد في هذه اللحظة , من أنا ؟, ربما سيختلف الأمر قليلاً , سيختلف لدرجة القلق في أغلب الأحوال , والسبب ربما نادراً أن أسأل نفسي , من أنا ؟, وربما يصدمنا أحد ما بهذا السؤال في لحظة صدق وشفافية عالية , كما فعلت مع المتدربين في أحدى الدورات التي قمت بإعدادها “الهندسة النفسية لتحليل الشخصية ” حتى أن أكثرهم أتاني في اليوم الثاني بعد طرح هذا السؤال عليه ليقول لي : لقد عجزت عن الاجابة عن هذا السؤال , تخيل أنني لا أعرف ذاتي , تخيل لم أكن أعرف من أنا !! هذه كارثة حقيقية جعلتني في حالة أرق طول الليل , لماذا أيقظتني على هذه الحقيقية المعجزة الإجابة ؟!!
لا يا عزيزي فهي ليست معجزة الإجابة عنها ولكنها بحاجة بكل بساطة لتعريض أنفسنا لهذا السؤال كل صباح لنفهم بكل يوم معنى جديد لذاتنا .
حين تحدث “ماسلو” في هرمه الشهير وقد وضع في قمته ما يسمى “الهوية وتحقيق الذات” كان يعرف جيداً أن أرقى ما يوصل الانسان إلى رسالته التي وجد لأجلها على هذه الارض ,هو تحقيق الذات وإدراك معنى هويته .
بجانبي طفل في هذه اللحظة يسألني : فماهي الهوية يا ماهر؟
سأجيبه وأجيبكم معه لنخطو أول المعرفة نحو ” الأنا “
الهوية : يستخدم هذا المصطلح وخصوصاً في علم الاجتماع وعلم النفس وتلتفت الانظار إليه في “علم النفس الاجتماعي” ليعبر عن مجمل السمات والصفات التي تميز الانسان أو حتى الاشياء عن غيرها , فكل عنصر على وجه الأرض يحمل الأجزاء التي تشكل هويته فمثلاً : ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين هي مجرد عناصر ولكن حين تتحد (H2O) فتحمل “هوية الماء” والماء من خصائص هويته التي تمنحها العظمة أن لها علاقة بكل ما هو حي على وجه الأرض , والانسان كذلك الأمر؛ فمجموعة سماته كالطول واللون والصوت ولغة جسده ونظام تفكيره ودوافعه وميوله وسلوكياته واتجاهاته ومكانته الاجتماعية والعلمية والمهنية جميع هذه العناصر تشكل هويته , ولهذا السبب من المستحيل أن نجد شخص يتطابق بالمطلق مع الأخر في الهوية فالتطابق يحدث من خلال السمات العامة كهوية الانتماء للوطن أو لمهنة معينة او لفكرة معينة أو ما شابه ذلك, لكن لا يمكن أن يتطابق هذا الانتماء بين شخص وآخر من ناحية طرق تفكيرنا نحوه وكيف تعمل مخيلتنا ومدى أهدافنا نحوه , فمحبة الوطن هوية صحيح , لكن , هناك من يحب وطنه كجغرافية وطبيعة وهناك من يحب وطنه كنظام اجتماعي من عادات وتقاليد او نظام سياسي او اقتصادي أو لأنه يتعلق بحبيبة ..الخ .
والهوية يا أصدقائي في حقيقة الأمر هي المفهوم الأعمق لكلمة أنا ولهذا في أغلب الأحيان نعجز عن تفسير معنى سؤال , من أنا . وبالتالي نعجز عن إيجاد الإجابة الصحيحة وربما يقتصر بنا الإجابة إلى أن نقول اسمنا وعملنا وربما العمر وبعض الاشياء الاخرى , لكن أن نستطيع تعريف وجودنا الكوني “هوية الأنا ” بدءاً من معنى الأنا على مستوى التعامل مع المعتقد حول الخالق وحتى الأنا في المستوى الاجتماعي ثم النفسي والتي تتضمن تفاصيل هائلة ومعقدة من كثرة ما تحمله من سمات متنوعة فهذا ما لا يفعله أغلبنا .
ولكن كيف تتشكل الأنا ؟ !! تسألني إحدى الفتيات محدقة بي بذهول !!
حين نقول مصطلح “الأنا” يصعد إلى الذاكرة مباشرة عالم النفس الشهير “فرويد” الذي اعتبر أن هوية الانسان النفسية تتشكل من ثلاثة مكونات أساسية “الهو ,الأنا, و الأنا العليا” فـ(الهو) من وجهة نظرية فرويد هي مختصة بغريزية الانسان ويعتبرها الموطن الذي أصبح يسمى حالياً اللاوعي أو” العقل الباطن ” والذي من مسؤولياته أنه يحتفظ بذكريات الانسان بكاملها وبما تتضمنه من مشاعر وأحداث , ولأن هذه المنطقة خطيرة جداً ويجب إخفائها وكبتها فلابد من تشكل منطقة الأنا والتي يعمل على تشكيلها الأسرة في البداية من خلال الأمر والنهي ومفهوم الخير والشر , ومن ثم العادات والتقاليد فتظهر لدى الانسان هوية جديدة قد تختلف عن هوية الهو أو العقل الباطن فمثلاً قد نرى شخص ناجح على الصعيد الاجتماعي أو المادي أو الفني أو العلمي ولكن يستوطن في عقله الباطن هوية مرضية و ما كان هذا النجاح “في مثل هذه الحالة ” إلا كحالة تحدي وصراع مرير بين الأنا العليا والعقل الباطن , ونذكر هنا (أينشتاين) الذي كان يعاني في مرحلة الطفولة من عدم القدرة على الكلام حتى سن متأخرة والعزلة الاجتماعية وميول لمرض التوحد واضطراب فرط النشاط والحركة و تشتت الانتباه ,لكنه من يصنف من أعظم العقول العلمية التي عرفها التاريخ والحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1921.
هذا الاستعراض يضعنا أمام سؤال كبير :
هل حقاً يكفي عمر واحد لنعرف نفسنا , ولنصبح قادرين على معرفة ذاتنا ؟
نعم , نستطيع معرفة ذاتنا حين نبدأ بفهم ما معنى “الأنا ” قبل أن نقولها , ومن المضحك أن نسمع بعضهم كنوع من التواضع الاجتماعي يرفق قوله :” أنا ..وأعوذ بالله من كلمة أنا ” من ماذا تتعوذ ؟ من هويتك ؟ من انسانيتك؟ من ماذا !! ثم , من قال لك أن الأنا هي امتثال الغرور !! هل وصل جهلنا الاجتماعي ب”أنانا” إلى هذا الحد , كيف سيعرف طفلك الإجابة عن كلمة أنا وهو يسمعك تقول أعوذ بالله من كلمة أنا , أي جريمة ترتكبها بإيهام ذلك الطفل أن كلمة أنا هي من المحرمات التي لا يجب التفوه بها !!!
حسناً لنضع الآن النقاط فوق أنانا : لذلك أعطني أذنك لأهمس بها قليلاً
ضع ورقة بيضاء أمامك وتساءل مع نفسك هذه الأسئلة :
من أنا بعلاقتي مع الخالق ؟
من أنا بعلاقتي مع الكون ؟
من أنا برسالتي كإنسان مخلوق على هذه الأرض؟
ما هو هدفي ولماذا أعيش هنا ؟
من أنا بعلاقتي مع دولتي ومجتمعي؟
من أنا بعلاقتي مع أسرتي ؟
من أنا بعلاقتي بنفسي ,هل أراها بحالة جيدة وراضٍ عنها ؟
من أنا كجسد بكامل مكوناته وبتفاعله مع بيئتي؟
من أنا بأحلامي وطموحاتي وإمكانياتي ؟
حين تجيب على جميع هذه الأسئلة أعدك بأنك لن تقول بعد اليوم : أعوذ بالله من كلمة أنا
بل ستقول : الحمد لله على كلمة أنا