(( زلزال العواطف المكبوتة ))
(مقالة حول” مقياس ريختر العاطفي “الذي يتم اختباره حالياً من قبل المختص في الارشاد الاجتماعي ماهر شبانه)
بقلم الاختصاصي الاجتماعي ومدرب التنمية البشرية ماهر شبانه
ما هو شعورك ؟ بماذا شعرت اليوم ؟
شعوري اليوم أنني سعيد , وربما بعد الظهر شعرت ببعض التعب والملل, ومساءاً أشعر ببعض الحنين ولا أعرف لمن هذا الحنين.
هذا الحوار نعيشه يومياً بصيغ مختلفة أليس كذلك ؟
حسناً فلنعيد تحليل هذا الحوار البسيط قليلاً :
كان السؤال عام وكبير بماذا تشعر وما شعرت به اليوم وكان الجواب مقتصراً على مشاعر قليلة جداً قياساً بما مر به هذا الشخص حقيقة في يومه فهو قال شعرت بـ(السعادة – الملل- والحنين) حيث قام بالتركيز على ما حضّره الوعي وما تذكره فقط .
ولو أعدنا السؤال بلغة أدق : ماذا شعرت في لحظة استيقاظك وبعد نهوضك من سريرك والنظر من النافذة وأنت تلبس ثيابك وأنت تقول لأهلك صباح الخير وحين نظرت في وجه والدك أو ووالدتك ثم حين خرجت من المنزل وما هو شعورك أثناء انتظار الحافلة وأثناء الصعود ..و…و…و…..الخ ؟ , هنا سنلاحظ أن لدينا لكل لحظة شعورها الخاص الذي كان غائباً عن جوابه ونتأكد هنا أنه مرفعلياً بآلاف العواطف والانفعالات خلال مسيرة يومه لكن تذكرها هو أمر مرهق جداً وبالأخص عندما تكون سلبية , فتذكر المشاعر السلبية على مدى يوم واحد بكل تفاصيلها ودقتها قد يسبب الموت مباشرة وان لم يتحقق الموت فأنت سوف تقتل نفسك بيدك لأنك ستحاول التخلص منها بأي شكل من كثرة العذاب الذي تسببه لك .
فما رأيك الآن بنعمة النسيان ؟ رائعة أليس كذلك ؟!!
لكن انتظر قليلاً سأثير قلقك لوهلة , أنت في الحقيقة ,لا تنسى! بل أن هناك مخزن كبير للذكريات والعواطف نعرفه جميعاً يسمى “العقل الباطن”
تصور!! أنه لا يضيع شاردة ولا واردة تمر أمام بصرك أو في سمعك أو ضمن مشاعرك الا ويخزنها ثم يقوم بفرز الذكريات وفق الأقوى عاطفياً , ولهذا حدد ذلك الشخص الذي تحدث في بداية المقال عن ثلاثة مشاعر أساسية فقط خلال تذكره لمشاعر يومه فهي كانت العواطف الأكثر انفعالاً في درجتها أثناء يومه ولهذا قدمها اللاوعي للوعي ليتذكرها كأولوية له.
لحظة ..إنني أسمع الوعي يشكر اللاوعي على فعلته هذه ,فلولاه لقتل تماماً !!
لا أعرف اذا كان هذا الشكر سيطول كثيراً حين سيعرف الوعي أن اللاوعي يخبئ له مفاجأة ! وهي أن ما يخزنه العقل الباطن من مشاعر وانفعالات لن يطول بها الأمر حتى تعود للظهور على شكل عواطف واضحة حيناً ومبهمة أحياناً كثيرة , وهنا تبدأ حلقة الأمراض النفسية والعقد والمشاكل العاطفية لدى الانسان , وحين سيعرف الوعي أنه من خلال خروج “مارد العواطف ” من قمقم العقل الباطن وأنها سوف تخرج متسللة انفعال, انفعال ,وشعور, شعور بالترتيب المنطقي نفسه التي دخلت فيه إلى محطتها في اللاوعي أثناء مرور يومنا
وهنا تبدأ مهمة (مقياس ريختر العاطفي ) الذي عملت على تصميمه منذ فترة بعد أن لاحظت في عملي ضمن اختصاصي في الارشاد الاجتماعي و تدريب دورات التنمية البشرية أن للجهاز العصبي وارتباطه بالمشاعر والتي تتحكم مباشرة بالأعصاب بحساسية عالية تماماً كما تحدث الزلازل في الطبيعة بحساسية فائقة قد لا نشعر بها في الكثير من الأحيان لكنها تلعب دوراً مهماً في فهمنا للمكبوتات العاطفية, ومدى تأثيرها على شخصيتنا وقرارتها النوعية والمشكلات والعقد التي نعاني منها , بالإضافة الى ارتباطها الوثيق بالثقة بالنفس و النجاح والصورة الذاتية للشخصية الانسانية.
تبدأ حساسية الانسان للمشاعر منذ بداية تكونه كجنين , حيث أنه يتأثر بطريقة غير مباشرة بالمشاعر والاحاسيس والمزاج الذي تعيشه الأم الحامل طيلة فترة الحمل, وهذا يفسر لنا الاستعداد الوراثي لطفل دون آخر و لمشاعر معينة دون أخرى, ويفسر لنا تطابقها في الكثير من الآحيان مع مزاجية ومشاعر الام , وبخاصة عندما تعززها التنشئة الأسرية في السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل , ففي حالة الاشباع نجد طفل متوازن ومبدع , وفي حالة اختلال المشاعر للطفل نتيجة مشاكل أسرية أو الفراق بين الأبوين أو التسلط ..الخ نرى طفل مختل التفكير والعواطف
حيث يبدأ الطفل منذ بداية وعيه في السنوات الأولى بمراقبة الأم ثم الأب و باقي أفراد الاسرة لاحقاً عاطفياً , حيث أنه في هذا السن يعمل العقل المفكر للطفل بطاقته الدنيا , فتكون مساحة الشعور مفتوحة لإلتقاط الذبذبات العاطفية من المحيط والاحتفاظ بها كمرجعية نفسية وعاطفية تؤسس لشخصية الطفل المستقبلية , وهنا تتشكل البصمة العاطفية للإنسان.
حسناً ,هذا يفسر لنا سبب سلوك الفتاة عندما تكبر والتي تبحث عن الحنان في الرجال حيث تخدع نفسها أن تلك هي مشاعر حب لكنها في الحقيقة هي مشاعر نقص الحنان منذ الطفولة سببه حرمانها من اشباع الحنان من الأهل فيلجأ العقل الباطن إلى تعويض هذه المشاعر الأمر الذي يسمح له بالسيطرة بشكل كامل حتى على العقل المفكر والبنية العصبية ويقودها للارتباط تحت قناعات وقيم تكرست مع مرور الزمن بمحض العاطفة الناقصة وأصبحت رهينة لها
ولكن وللأسف لا يمكن تعويض هذا الحنان مهما فعلت ,فالإشباع يجب أن يتم في وقته وخلال السنوات الخمس الأولى في ذروته.
جاء مقياس ريختر العاطفي بعد فهم هذه المعادلة النفس- شعورية التي تتحكم بحياتنا دون معرفة أبعادها ومدى تأثيرها على الجهاز العصبي للإنسان
ولهذا تم اعداد هذا المقياس الذي يعتمد على أساس معين وهو (المثير الشعوري والاستجابة العصبية الشعورية) ورسمها من قبل العينة المجربة له على شكل ذبذبات غاية في الدقة يعبر فيها الجهاز العصبي عن المكبوتات الشعورية المتحكمة به , والتي هي مدفونة في اللاشعور أساساً.
باستخدام عدة وسائل تستخدم كمثير شعوري, كالموسيقا أو فيلم فيديو أو التخيل والتأمل والاسترخاء , حيث يقوم المتطوع بالسماع لموسيقا تؤمن له الاسترخاء أو التحفيز على السواء, ويبدأ بخط القلم على الورقة متماشياً مع تأثر جهازه العصبي المتصل مباشرة بالمشاعر من خلال الاميجدالاAmygdala (هي نتوء لوزي في مخ الانسان على شكل لوزة يقع أعلى جذع المخ بالقرب من قاعدة الدائرة الحوفية وفي المخ (أمجدالتان ) كامنتان في كل جانب من جانبي المخ في اتجاه طرفي الجمجمة ,وهي المسؤولة عن كافة المشاعر لدى الانسان ) وترسم على شكل ذبذبات تشبه تخطيط مقياس ريختر , وعند كل فاصلة شعورية يسمي الشعور الذي عاشه فوق الرسم الذي يخطه مباشرة , وهذه تسمى الدورة الشعورية التي عملت على إعدادها سابقاً
وهنا تم ملاحظة ان مقطع موسيقي واحد أفرز لدى كل متطوع مشاعر مختلفة حيث تم ملاحظة لدى متطوع عند ارتفاع نبض الموسيقا أنه يشعر بالخوف ولدى آخر بالتوتر وأخرين حفزهم للنجاح والشجاعة فالبعض يبتسم والبعض يبكي في موسيقا واحدة !!
فما هو السبب يا ترى ؟!
السبب : هو المكبوتات الشعورية المختلفة بين شخص وآخر والتي ترتبط مباشرة بالذكريات الشعورية والعاطفية النفسية التي عاشها كل شخص وهنا تكمن أهمية هذا المقياس , والذي بالاعتماد على هذا الكلام يكشف النقاب عن تلك المشاعر الدفينة ويبدأ بتفسيرها ومناقشتها مع كل متطوع , المذهل في الأمر أن الكثير من المتطوعين تحدثوا عن تطابق يصل لنسبة 80% بين ما أسقطه المقياس من مشاعر وبين مشاعر معينة عاشوها في تجربة معينة او خلال فترات حياتهم الأمر الذي جعلهم يتطلعون على حقيقة مشاعرهم الدفينة واظهارها من جديد للعلن لكن هذه المرة بهدف معالجتها و تحويلها من مشاعر سلبية الى مشاعر ايجابية ستلعب دوراً حاسماً في شكل حياتهم الجديدة المستقبلية
م- أ تقول: (فوجئت بالمقياس أنه استطاع ان يكشف الفترة العصيبة التي مرت بها عواطفي أثناء مرض والدي بهذه الدقة والتراتبية الزمنية لشكل العواطف التي توالت أثناء كل مرحلة في مرضه )
ر- س تقول : ( كنت أقول أثناء تجربتي بالمقياس بأن هذه الخطوط التي أخطها والمشاعر التي أكتبها لامعنى لها ولا علاقة لها بواقع شخصيتي وماضي , ولكن بعد النقاش وتحليل النتائج تبين لي أنني كنت أرسم وأعبر عن مرحلة معينة عشتها بشكل تراتبي دقيق تماماً لدرجة التطابق مع نتائج المقياس, أثناء تجربتي بالمقياس بدأت دورة شعورية بشعور الوحدة تلاها توتر ثم تشجيع ثم تحفيز ثم اثارة ثم اهتمام ثم تواصل ثم أمان , هذه المرحلة كنت فيها قد أصبحت محامية لكن كان خوفي من عدم فتح مكتب وتأمين شغل لي يدفعني للجلوس بالبيت فشعرت بالوحدة وصاحبها عصبية وتوتر دائم ثم جاء التشجيع نتيجة الامل بحصولي على فيزا للسفر لكنها لم تنجح وبعدها جاء التشجيع من اهلي للعمل في المحاماة واتصل بي أناس لاستلم لهم قضية وجاءت مرحلة الاثارة والاهتمام من خلال مساعدة صديق محامي لي مما زاد حماسي ووصلت بعدها لمرحلة الامان وهذا مطابق تماما لما رسمته على المقياس ’ وانا كنت اعتقد انها مجرد خطوط لا اكثر)
الآن أقول : نحن دائماً ومهما فعلنا وتعلمنا نبقى دائماً مذهولين أمام روعة النفس البشرية وتعقدها الجميل , ويبقى بحثنا دائماً هو مجرد محاولات متواضعة للإبحار في محيط النفس الواسع
فلنوعد أنفسنا بالبحث أكثر بأبهى ما خلق على وجه الأرض هو الانسان .