نذهب لمكان ما.. نزوره لأول مرة.. وعندما نصل هناك.. نتأمل المكان.. نغمض أعيننا للحظات.. ونقول لأنفسنا.. لا.. إنها ليست أول مرة.. لقد كنا هنا من قبل.. لكن متى؟.. كيف؟.. ولماذا؟.. لا ندري.. وتحتار عقولنا محاولة تفسير ما يحدث.. نجلس مع أصدقائنا وعائلاتنا ونبدأ بالتحدث بأمر ما.. وفجأة.. نشعر أننا مررنا بنفس هذا الموقف.. نعم.. أتذكر تماماً ذلك.. حتى أن أمي كانت تجلس هنا.. وأبي يقول هذا.. أخي سيتحدث إلى أختي في هذه اللحظة.. وفعلاً.. نجد أن ما فكرنا به يحدث تماماً.. ويبقى السؤال هنا.. هل فعلاً نحن مررنا قبلاً بهذا الموقف؟.. أم أنها مجرد تهيؤات؟.. حتماً لن نبالغ إن قلنا أن كل واحد منا راوده هذا الشعور من قبل.. لكن قليل منا من يعرف حقيقة هذه الظاهرة.. فما هي الديجا – فو؟
حقيقة الديجا – فو
تُمثّل هذه التجربة شعوراً لدى الشخص بأنه قد مرّ بنفس الموقف من قبل، أو أنه أجرى نفس المحادثة مع شخص آخر. إنه شعور بالألفة مع الشيء الذي يحدث، يرافقه إحساس داخلي يجعل الشخص متأكداً بأن هذا الشيء أو المكان.. أو المحادثة.. كلها ليست بجديدة.. وإنما تمت تجربتها قبل الآن.. وتجدر الإشارة إلى أن كلمة الديجا – فو هي كلمة فرنسية الأصل تعني (شوهد من قبل) وفي الإنكليزية تُسمّى (already seen).
وحسب ما أثبتته الدراسات فإن ظاهرة الديجا – فو تحدث لـ 70- 80% من الأشخاص، وبشكل عشوائي، أي أنه لا صفات مميزة للشخص الذي يمرّ بهذه الظاهرة. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هنا.. ما هو السبب وراء مشاعر الألفة بيننا وبين تلك الأمور؟
على الرغم من شعبية هذه الظاهرة، إلا أنها لا تزال حتى هذه اللحظة أمراً حيّر العلماء، خاصة أنه لا أعراض لحدوثها، وكما ذكرنا فإنها ممكن أن تحدث لأي شخص، في أي مكان وأي وقت، ودون سابق إنذار. يمكن أن تخبرنا عن أمور تتعلق بالعمل، الأسرة، الأصدقاء.. وقد تؤدي إلى نتائج محورية تؤثر على حياتنا. وقد ظهرت العديد من الفرضيات التي تفسرّها وكان منها:
1- نُظم الذاكرة:
حيث يرى العديد من الباحثين أن هذه الظاهرة تستند إلى مراكز الذاكرة في المخ، وبأنها هي المسؤولة عن ذلك. المخ يُقسم عموماً إلى عدة أقسام، وكل واحد منها تكون له وظيفة معيّنة، (الفص الصدغي) يكون مسؤولاً عن الذاكرة طويلة المدى للأحداث والوقائع، وهناك أجزاء معيّنة فيه تكون مهمتها الكشف عن الألفة مع تلك الظاهرة وتأكيد تجربتها من قبل وأجزاء أخرى لتذكر تفاصيل الظاهرة، وما يحدث أحياناً هو تأخر الحدث في الوصول إلى الجزء الثاني، حيث يرى الشخص موقفاً ما، فتصل الصورة إلى الجزء الأول في (الفص الصدغي) المسؤول عن الألفة، وتتأخر لثواني معدودة عن الوصول إلى الجزء المسؤول عن تذكر التفاصيل، أي أن الفرق يكون ثوانٍ فقط حتى يدرك الشخص تفاصيل الحدث كما هو، لذلك فإنه يعتقد لثواني فقط بأنه مرّ بتلك التجربة من قبل، لكنه عندما يتذكر التفاصيل يدرك أنها تجربة جديدة لكن قد تكون مشابهة لتجربة سابقة، وقد يشعر بالألفة مع التجربة، لكنه يعجز عن تذكر التفاصيل. كأن نرى مثلاً رجلاً في متجر، ونكون متأكدين أننا رأيناه من قبل، لكن تخوننا الذاكرة في معرفة أين ومتى رأيناه قبل الآن؟.. ويُعتبر من الصعب تأكيد هذه الظاهرة على الأشخاص الأصحاء كونه كما ذكرنا لا إشارات تسبق حدوثها، ولا يستطيع الشخص التنبؤ بها.
2- عدم التطابق والدوائر الصغيرة:
تفيد تقارير الباحثين بأن الديجا – فو هي ظاهرة تحدث بسبب تباين في أنظمة الذاكرة تؤدي إلى توليد ذاكرة تكون مبنية على تجربة حسيّة جديدة. وحسب هذه النظرية فإن المعلومات التي تصل للذاكرة حول حدث ما، تصل إلى الذاكرة قصيرة المدى بدلاً من الذاكرة طويلة المدى، وهذا يؤدي إلى تباين بين الأحاسيس التي تصل إلى الذاكرة، والذكريات التي تخرج منها بالمقابل، فنخزن ما نراه أو نمر به في الذاكرة قصيرة المدى قبل أن تصل إلى الذاكرة طويلة المدى ونستوعبها بشكل كامل، فنشعر بأن التجربة مألوفة، لكنها ليست واقعية مادية، ونتذكر الحدث العام، لكن لا نشعر بأننا نعرف الأمور الثانوية والتفاصيل المُتعلّقة به. وتقول هذه النظرية أيضاً بأن الديجا – فو هو رد فعل من نُظم ذاكرة الدماغ على تجربة مألوفة، وكأن هذه التجربة هي عبارة عن رواية فيها العديد من العناصر المُدركة وإن كانت في مواقع مختلفة، فمثلاً الأحاديث التي تُحكى مع العائلة في مطعم خارج المنزل، تكون مشابهة كثيراً للأحاديث التي تجري في المنزل. مما يجعلنا نُحس بالألفة تجاه ما يجري.
3- الماضي والأحلام:
هي من أكثر النظريات انتشاراً لتجربة الديجا – فو. وهي تمتد إلى الحياة الماضية وما يحدث للإنسان خلال الأحلام. الباحثون الذين تحدثوا عن ارتباط الديجا – فو بالماضي أكثرهم من علماء ما وراء الطبيعة، حيث يعتقدون بأن لكل شخص حياة ماضية عاشها قبل أن تُنفخ فيه الروح ويأتي إلى الحياة الحالية، لذلك فإن كل تجربة يمر بها في الحياة الحاضرة تكون إعادة لنفس التجربة التي مرّ بها في حياته السابقة. أما بالنسبة للأحلام فيقول المعتقدون بذلك بأنه حين ينام الإنسان تنفصل روحه عن جسده، وتخرج منه لتزور عوالم أخرى، وتلتقي بأشخاص آخرين، وربما يحمل هؤلاء الأشخاص رسائل معيّنة لذلك الشخص، وقد تدور بينهم أحاديث كثيرة خلال الأحلام، تلك الأحداث كلها تبقى مُخزنة بالعقل الباطن للشخص وينساها بطبيعة الحال، لكن عندما يمّر بتجربة تشبه ما رآه في المنام نراه يسترجع ما تخزنه الذاكرة المخبأة أو العقل الباطن، الأمر الذي يجعله يشعر بالألفة مع تلك التجربة، فنظن بأننا في حياتنا الواقعية سمعنا الحديث نفسه من قبل، أو مررنا بتلك المنطقة لكن في زمن نعجز عن تحديده، وكل الأمر يكون أننا عشنا تلك التجربة فعلاً خلال نومنا.
4- ذاكرة الاعتراف:
ظهرت هذه النظرية في السنوات الأخيرة، حيث بدأ أغلب العلماء يدرسون ظاهرة الديجا – فو وارتباطها بالذاكرة، فوجدوا العديد من أوجه التشابه بين الديجا – فو وفهمنا لذاكرة الاعتراف لدى الإنسان. وما خلصوا إليه أن الإنسان يميل دوماً في ذاكرة الديجا – فو إلى الاعتراف بأنه مرّ بتجربة مماثلة من قبل، لكنه لا يعرف أي شيء آخر عن هذه التجربة، أو أنه رأى هذا الشخص أكثر من مرة، لكنه لا يتذكر الحديث الذي جرى بينهما. للحصول على تفسير أوضح قام أحد الباحثين بعرض مجموعة لأسماء بعض المشاهير على عدد من المتطوعين، ثم عرض عليهم صوراً لعدد من المشاهير، بعضهم أسمائهم موجودة في اللائحة السابقة والبعض الآخر لا، وكانت النتائج المثيرة للدهشة، فرغم أن المتطوعين لم يتمكنوا من معرفة المشاهير الموجودين بالصور، إلا أنهم قالوا بأن هذه الأسماء ليست بغريبة عليهم، وعرفوا مَن مِنَ المشاهير كان اسمه موجوداً على اللائحة السابقة وأيّهم لم يكن، وهذا يعني أنهم شعروا بالألفة مع الأسماء، لكنهم لم يتذكروا مصدر تلك الألفة. وهنا بدأ الباحثون بمحاولة معرفة مصدر مشاعر الألفة تلك، وتوصلوا لنتيجة مفادها أن الأحداث والتجارب التي تمر في حياتنا تبقى مُخزنة في ذواكرنا، وقد نمر بتجارب تكون فيها تفاصيل مشتركة مع حدث سابق، مما يولّد لدينا شعوراً بالألفة تجاه التجربة الجديدة.
5- الحاسة السادسة والاستبصار:
كثير منا يحدث له عند المرور بتجربة الديجا – فو أن يجد لديه القدرة ليس فقط على ربط ما يحدث الآن بشيء سابق حدث معه، بل أيضاً على معرفة ما سيجري في الدقائق وربما الساعات التالية، هذه الحالة قام العديد من الباحثين والعلماء بدراستها، ووجدوا أنها مرتبطة إلى حد كبير بالحاسة السادسة وقدرة الشخص على الاستبصار والتنبؤ بالمستقبل، حيث أن العقل بالباطن يقوم بتخزين مجموعة من الذكريات والمعلومات في فترة قريبة من العقل الواعي، ما يجعل الشخص يشعر أنه يعرف الحدث بكل تفاصيله الحالية والمستقبلية. وفي معظم الأحيان تكون التجربة جديدة كلياً على الشخص، لكن وحسب اعتقاد العلماء أن من يمر بمثل هذه التجربة هو شخص روحانيّ ممتلئ بالأحاسيس، مما يعطيه قدرة على استبصار المستقبل ومعرفة أحداثه.