(قصة قصيرة ضمن سلسلةٍ من أربع حلقات تفسر عمل الذاكرة)
حاول فؤاد تذكّر القصيدة في طريق عودته إلى البيت، لكن دون جدوى. وفي خزانةٍ تائهة من أرشيف الذاكرة، رقدت أبياتها بعد أن انسلّت بصعوبة، وضاع طريق الوصول إليها. فيما دخلت العبارات الأهم في محادثة فؤاد مع حميد أرشيف الذاكرة من بابه الواسع، بعد أن استرجع فؤاد ما قيل خلالها خاصة. بينما اصطدمت القصيدة بِطُرقٍ عصبية غير سالكةٍ مهما حاول استرجاعها.
وفي مكانٍ ما من دهاليز الذاكرة الطويلة، قالت المحادثة:
– لكم آسف على مصيرك أيّتها القصيدة بعد كلّ الوقت الذي أمضاه معك. ماإن حللتِ ضيفاً على الذاكرة، تقطّعت بكِ السبل وتاهت عنكِ الأفكار. لأن فؤاد أهمل الأخذ بأسباب الحفظ.
– بل أخذ بها. أجابت القصيدة، وأردفت: فقد قرأني بضع مرات، واستوعب معاني كلماتي جيّداً، ثم قام بتقسيم أبياتي حسب سياقها إلى مجموعاتٍ أصغر يسهل حفظها.
– لكنّه لم يغرس جذوراً قويّة لك في ذاكرته.
– بدأ بحفظ الكلمات الأولى من أبيات القصيدة، حتى صار يقرؤها من الأعلى إلى الأسفل عن ظهر قلب، لكنّه وقف عاجزاً عن استرجاع ما تلاها من كلمات.
– ليته علِم أن خلايا الذاكرة لا ترتبط ببعضها بشكلٍ خطّيٍّ متسلسل، بل شبكيٍّ متشعّب. أي لا يُشترط الوصول إلى أوّل معلومة (أوّل كلمة من السطر، مثلاً) من أجل استذكار ما يليها، بل توجد طرقٌ أسهل. كان عليه أن يجد طريقةً ملهمة تساعده على تخيّل كلمات القصيدة قبل أن يتمكن من حفظها؟
– وما علاقة تخيّل الكلمات بالقصيدة نفسها، أيتها المحادثة؟
– التخيّل هو ما جعله ينساكِ ويذكرني. لأنه قرأكِ نصّاً مجرّداً، قرأكِ بشفاهه لا بروحه وخياله. وفي المقابل، حضر محادثة مع حميدٍ بجسمه وشارك فيها بنفسه. ورأى حميداً يتفوه وطرقت أسماعه ما قيل كلمةً كلمة. ثم أعادت مخيّلته تركيب المشهد بعد أن سار مبتعداً. فساهمت في توثيق ما جرى في ذاكرته الطويلة.
– تقولين المخيّلة؟ ذاكرته إذاً ليست دقيقة!
– ”ههه”. أجابت المحادثة ضاحكةً وقالت: ذاك ما عنيتهُ تماماً. لا يتذكّر الإنسان الأحداث بحذافيرها، بل يتخيّلها. أي تعيد أخاديد الذاكرة المؤقتة تأليفها وتركيبها من النزر الذي ثبُت في دهاليز ذاكرته الطويلة منها، التي مهما توسّعت فلن تستوعب جميع التفاصيل المنهمرة عليها.
اقرأ في هذا الصدد : رحلة إلى أخاديد الذاكرة
– فكيف تريدينه أن يتخّيل الشِّعر؟
– لو فكّر في مدلولات كلّ كلمةٍ على حدة، فأعطاها صورةً أو صوتاً أو ما يرمز لإحساسه بها. ثم جمع تلك الرسوم والأصوات والأحاسيس على ورقةٍ أو أحاط بتفاصيلها في مخيّلته، فصاغ من كل بيت شعرٍ مقطعاً من الرسوم المتحركة وكأنه يشاهده أمامه في أثناء قراءته، لاختلفت النتيجة أيّتها القصيدة.
– سيستغرق ذلك وقتاً أطول، لا تسمح به ساعة الرياضة.
– لا أنكر أنّها مهارةٌ تحتاج إلى مِران. لكنّها تسهّل عملية تثبيت المحفوظات ولو استغرقت وقتاً أطول في بدايتها. حفظ المعلومات يحتاج تجنيد الأحاسيس كلّها خلال عملية الحفظ. ولا تنسي أنّ البهجة الناجمة من تأجّج الحواس لدى تعلّم شيءٍ مثير، تؤدّي إلى إفراز الدماغ هرمون النشوة ”دوبامين“، الذي يلعب دوراً أساسياً في تخزين المعلومات الملهِمة، وفي إنشاء ممرّات سريعةٍ إليها مهما عفا عليها الزمن. لن ينسى فؤاد قيادة الدراجة ولو لم يزاولها عشرين سنة. كما لن ينسى معادلة فيثاغورس للمثلث القائم.
أنصت فؤاد للمحاورة بينهما، إذ كان مستغرقاً فيما جعله ينسى القصيدة ويتذكر المحادثة. ولمّا عُرف السبب بطُل العجب. وهكذا نجح في حفظ القصيدة عن ظهر قلب قبل نهاية الأسبوع، إذ حفظ بيتٍاً منها في طريق ذهابه إلى العمل، وبيتٍ في طريق إيابه منه. وأعدّ لساعة الرياضة الأسبوعية قصيدةً جديدة.