أنا إنسان غني. لست غنياً بذكائي ومعرفتي بل بمالي وسلطتي. لقد ولدت ولم أعرف غير الرخاء في حياتي. إن ثروتي، وهذا أمر لن أخفيه عنكم، هو ميراث قديم من أبي الذي توفي وأنا في ريعان شبابي.
لقد علمني أبي وأنا في صغري أن المال والرخاء هما السعادة وهذه فكرة ما فارقت ذهني قط، بل ظلت معي فترة
طويلة وأصبحت فيما بعد مبدأي ونظرتي في الحياة. وهذه القناعة تكونت مع الأيام حين كنت صغيراً. وفهمت لاحقاً أن سعي البشرية جمعاء ما هو إلا وراء السعادة، وخلصت إلى أن المال هو إذاً السعادة. قد تبدو أفكار شبابي مكررة وساذجة إلا أنها هي نفسها كانت شعاري في الحياة.
وبالفعل أمضيت حياتي وفقاً لهذه المبادئ، غير أن الفرق بيني وبين الآخرين، أنني كنت أملك المال منذ البداية. لم أفعل شيئاً لكي أحصل عليه، وبهذا أعلنت في وجه الجميع أنني سعيد. وقمت بإقناع نفسي والآخرين أن هذا لا يمكن أن يكون إلا بسبب الطبيعة. لقد اختارتني الطبيعة لكي أكون غنياً وسعيداً. لا أعرف لماذا لكني مقتنع أنني استحق كل شيء.
وعن المال الذي كنت أملكه فقد كان كافياً لأن أقضي حياتي كلها من دون عمل. ووفقاً لهذا الأمر شرعت بإسرافه من أجل سعادتي. وكنت أحظى بشعبية واسعة بين الذين يعرفوني فقد كنت محبوباً جداً، ولاحظت فيما بعد أنني مركز اهتمام من حولي لأنني كنت أعرف أنهم يظنون أنني سعيد. في البداية تكونت لدي شكوك من أنني مهم. ثم فيما بعد أصبحت موقناً أنني مركز الكون. عدا ذلك فقد رأيت الحزن في عيون من حولي لأنهم كان يندبون حظهم التعيس فيما يخص الطبيعة وقوانينها، إلا أنني كنت شديد الحذر، فما إن يقترب أحدهم مني حتى يراودني الخوف، الخوف من أن يشاركني الآخرون سعادتي. ولهذا السبب إنما عشت وحيداً وجشعاً، مما جعل من حياتي فارغة. فأنا لن لم أملك في حياتي صديقاً حقيقياً ولم أتزوج قط بدافع الحب.. بل بدافع الرغبة.
أنني أعترف لكم: بأنني أحببت نفسي ونفسي فقط. وقد تستغربون من الأمر. لكن هذه كانت قناعتي… أنني عندما كنت أشعر بتلك السعادة لم أستطع أن أحب أحداً، لأنني كنت أرى أن الآخرين يجب أن يحبوني.
ولكن لماذا كل هذه الاعترافات؟ وما هي فكرتي من هذه الاعترافات؟
في الحقيقة لا أعلم أنا بنفسي لماذا اقوم بإعترافاتي إلا أن الضجر والملل قد حاصراني. لقد سبق وأن قلت أنني وحيد وما من أحد هناك أخبره بمشاعري. لقد تراكمت المشاعر وأصبح هنالك فائض يجب أن أبوحه والنتيجة كانت اعترافاتي، غير أن حياتي تشبه حياة ضفدع لا يملك ذاكرة… نعم أنني لا أملك ذكرى مع أي أحد، ذكرى حقيقية وغير مصطنعة. وهذه الاعترافات قد تكون آخر ما أتذكره قبل أن أغادر هذا العالم.
وأما بالنسبة عن فكرتي الرئيسية وراء هذا الاعتراف فهي أكثر ما أخشاه. ولكن أخشى ماذا؟ لن يقرأ أحد هذه الاعترافات على كل حال. لقد كنت أريد أن أقر أن البشر يا سادة لم ولن يفهموا معنى الحياة. نعم.. إن الإنسان يضع دوما آمالاً أمامه وهو يظن أنه لو تحققت هذه الآمال، سيصبح سعيداً. وأستطيع أن أزيد على ذلك وأقول أن مسعى البشر لتحقيق السعادة والرخاء والحلم في حياة خالية من أية مشاكل ما هو إلا خرافة ظهرت حديثاً خصوصاً وأننا في القرن الواحد والعشرين، هذا القرن التعيس. إلا أن الجميع يسخر مني بسبب اعتقادي هذا.
يا سادة أنا أعلم أنكم تنعتونني بالمجنون وتقولون: وعلى ماذا بنيت البشرية إذا لم يكن على الأمل؟ وكيف نهضت الأمم من تحت أنقاضها إذا لم تعش على أمل مستقبل أفضل وما هو خلاص بالنسبة للسجين إذا لم يكن هناك أمل؟
يا سادة إن السجين لا يستطيع ولا يقدر أن يعيش من دون أمل. ولنحسب أنه يملك أمل الخروج من السجن ذات يوم. إن هذا الأمل، في الحرية طبعاً، يصبح من أعلى الحاجات الروحية لديه. ولكن ما إن خرج وتحققت جميع أحلام صاحبنا حتى عاد ودخل في الاكتئاب. لأن هذا الحلم قد تحقق ولم يبقى شيء لتحقيقه. لقد كان حلم الخروج مشروع سنوات يحلم به السجين ليل ونهار. ويشعر به في فؤاده وبين جوارحه وينظر إلى الخارج ويتأمل الناس ويرى أو يبدو له أن الحرية هي السعادة.
وبشكل مختصر يا سادة أقول لكم أن الأمل ذو حدين. فقد ينقذ حياة وقد يأخذ حياة وأنني أنا بنفسي عايشت هذه الحقيقة. ولكن المستهزئين في كل الأحوال لن يفهموا هذا الأمر وسيقولون: أنت لن تفهم وجعنا لأنك ولدت وفي فمك ملعقة من ذهب.. ولا يمكنك أن تدرك كم نحن تعساء، بسبب فقرنا وانت لست شاكراً على ما تملك ولا تعرف قيمة ما لديك”.
وبالطبع لن أستطيع الرد لأنهم على حق. فالإنسان لا يمكن أن يحيا من دون آمال، وما أن يبلغ هذه الآمال حتى يفهم كم هو تعيس. إني أنصحكم بأن لا تتأملوا. نعم لا تأملوا بمستقبل أفضل… بل كونوا أفضل الآن وفي نفس اللحظة واللحظة القادمة.
يظن الكثيرون أنني إنسان سعيد. غير أن ما أشعر به هو حزن عميق وكامن. لقد ذكرت كثيراً أنني عشت سعيداً إلا أن هذه كانت كذبة. لقد كذبت على نفسي طوال الوقت لأبرهن أن المال هو السعادة. لكنني يا سادة لست سعيداً.. بل أنا تعيس وربما أكون أتعس إنسان على وجه الأرض. إن سعادتي كلها كانت لحظات عابرة وفارغة. لم أشعر بالسعادة الحقيقية طوال حياتي وهذا لأنه لا أستطيع تذكر أي ذكرى جميلة مع أي أحد. لقد أحببت المال والرخاء، وها أنا ذا اعترف بأن هذا كان أول خطأ ارتكبته… ولهذا يجب أن أخرج من هذه القوقعة ومن جدران هذا القصر وانطلق متوجها نحو البشر لأخبرهم الحقيقة.. الحقيقة أن الحياة كلها تعاسة وأنه يجب نقبل التعاسة والمعاناة حتى نتقدم. ولكن كفى.. لن أبرهن على صحة هذا الكلام. اذهبوا وانظروا في مضمون جميع الأديان السماوية واللاسماوية، الكتب الأدبية والفلسفية وستدركون أن الحياة ليست بسيطة كما هي في نظر الأطفال.
الحياة….يا سادة أنها ظالمة لأنها عبارة عن سلسلة من المعاناة لا تنتهي أبداً وما إن قبل البشر معاناتهم حتى أدركوا معناه. وبالمناسبة هذه حقيقة أزلية عرفها البشر وطبقوها إلا أنها حرفت بسبب الحداثة. وهذه الحداثة نفسها هي التي تقول:”أيها الإنسان هناك أمل من أجل سعادتك. وهذا يكمن في معرفة قوانين السعادة وقوانين النجاح وقوانين الحياة”. إلا أن السعادة والحياة ليس لها قانون فكيف يمكن إذا أن نقول إن المال هوالسعادة الأبدية.
إن هذه القوانين هي نفسها التي تحد روح الإنسان وتضعه في قالب. فهي التي تقول له على سبيل المثال: اشرب خمس كؤوس من الماء في الصباح وستربح اليوم كله، افعل هذه الخطوات وستكون سعيداً، أو قم بهذه الخطوات وستترك التدخين.. إن هذا يبعث على الضحك. فمنذ متى كان هنالك معادلة رياضية لإسعاد الإنسان أو طريقة متبعة كي يترك التدخين؟ إذا أراد الإنسان ترك التدخين فإنه يتركه بكل بساطة.
اسمعوا، وانا اعلم أن أحداً لن يسمع هذه الاعترافات، إنه لمن المستحيل أن نضع للإنسان خططاً يتقيد بها حتى ولو كان هذا في ضد مصلحته. وذلك لأن الإنسان محكوم بروحه وهذه الروح إنما في نظري هي أعلى من العقل أيضا. فها نحن ذا في أكثر القرون دهشة من حيث الوعي والمنطق ومعا ذلك نقوم بالتدخين ونرى على نفس علبة التدخين مدون: التدخين قاتل.
إن ما فهمت من حياتي وحياة كل من يسعى لكي يملك مثل ثروتي لم ولن يفهم ما اعترفت، لا بل ولن يصدق أيضاً، لأن هؤلاء بالذات محكومون بالأمل. ذلك الأمل أن السعادة لها قوانين والحياة لها قوانين والنجاح له قوانين.
هنا اكتفى صاحبنا الغني من اعترافاته. فكر لبرهه من الزمن وقام فوراً بتقطيع الورقة التي كتب اعترافاته. ثم هرب من قصره وبدأ بالمشي كالمجنون يبحث عن الناس كي يخبرهم بالحقيقة إلا أن الناس ظنت أنه جن. أخيراً وصل إلى مكان مهجور. هناك رأى شجرة جميلة فذهب وجلس تحت ظلالها متأملاً الحياة…