قلّب بصره بين الأشجار والأزهار والأطيار وهو يمارس الرياضة بمحاذاة جدولٍ قريب من منزله، غير أنّ صُورها سرعان ما تزول من ذاكرته الآنية، لأنّه كان مشغولاً بحفظ أبيات شعرٍ يردّدها وهو يمشي. حتى وقع نظره على حسناء تمشي في الاتجاه المعاكس. حيّاها مبتسماً، فبادلته التحية بابتسامةٍ ساحرة خفق لها قلبه، في اللحظة ذاتها التي وقع في سمعه صوتاً من الخلف ينادي: فؤاد.
نشأت من التقاء العصبين البصريين القادمين من العينين صورةٌ ثلاثية الأبعاد للمرأة، وأُرسلت الصورة إلى الدماغ ليقوم بتحليلها واستخراج معلومات إضافية منها. فيما أرسل العصبان السمعيان المرتبطان بالأذنين جرساً صوتياً مركّباً ليستخرج الدماغ معلوماتٍ إضافية عن الصوت ومصدره. وفي مركزي التقاط السمع والبصر في الدماغ، قالت الصورة للصوت مستهزئةً:
– أنا خيرٌ منك. فليس هناك ما يثير نشوة الرجل أكثر من ابتسامة امرأةٍ فاتنة. ولا أشكّ أن صاحبنا سيحتفظ بي في ذاكرته الطويلة. فيما ستمكث أيها الصوت العابر في ذاكرته المؤقتة حتى تذوي وتختفي.
– لو توقّف الأمر على جمال المعلومات الواردة، لكان ما تقولين. أجابها الصوت، وأردف: لكن بمجرد أن يحلّلني الدماغ في ذاكرته المؤقّته، ويقارن الصوت بما تم حفظه في ذاكرته الطويلة، أصبحُ رسالةً لها معنى أيّتها الصورة البتراء.
– تقول عني بتراء وقد أسرتُ قلب فؤاد؟ أيها الصوت الخشن!
– أنتِ جميلةٌ، لكنك بتراء لأنّك لا تطابقين صورةً مألوفةً في أرشيف ذاكرته الطويلة، ولن يجد بُدّاً من الاستغناء عنك والالتفات لمصدر الصوت الذي تمّت مقارنة حروفه مع محفوظات الذاكرة، فوافقت اسم مُتلقّيه فؤاد.
– أتّفق معك أيّها الصوت في كونكَ معلومةً لها ما يربطها في ذاكرة فؤاد الطويلة، وقد تحمل رسالةً له. لكنني داعبت غرائزه. ولا أراه إلا مهتمّاً بالنشوة في مخيّلته.
– صورة امرأةٍ لا يوجد ما يربطها في ذاكرة الناظر، قد تنجو لبعض الوقت، لكن ذاكرة صاحبنا المؤقتة لا تتسع لكمٍّ هائل من المعلومات الغثة، سيتابع مشيته وينساكِ تدريجياً، ما لم يتوفّر ما يربطك بمعلومات محفوظة مسبقاً في ذاكرته الطويلة.
– وما هي الذاكرة الطويلة أيها الصوت الثرثار؟
– مكتبة هائلة من المسمّيات والأشخاص والأشياء والصوّر والأصوات والأحداث. يتم حفظ بياناتها في خزائن مؤلّفة من بلايين الخلايا العصبية المرتبطة ببعضها عبر عصبونات حسب ما يربط المعلومات ببعضها وبأصحابها. يسهل الوصول إليها تبعاً لقوة الوشائج الرابطة بينها. فلو افترضنا أنّكِ مكثتِ في ذاكرته المؤقتة قليلاً، فسيعيد الدماغ توزيع المعلومات الواردة وأرشفتها خلال النوم حسب ما يربطها بمعلوماتٍ محفوظة. وفي أحسن الأحوال سيرسلك إلى خزانة تتعلق بالصور غير المترابطة في ذاكرته الطويلة، ولن يفتحها صاحبنا طيلة حياته، إلا اللهم وهو نائم.
– ما دمت عبقرياً حدثني عن مصيرك أنت أيّها الحسود.
– حين وافقتُ جرساً محفوراً في ذاكرة فؤاد الطويلة وهو اسمه، تحوّلت من معلومةٍ مجرّدة إلى فكرة. وأرسلتُ أمراً إلى دماغ فؤاد ليوجّه بصره نحو مصدر الصوت فيرى حاجة المنادي.
وحين التفت فؤاد إلى مصدر الصوت وجد جاره حميد، وأصبح للصوت رابط جديد وهو هوية المنادي. هتف فؤاد: أهلاً حميد؟ وتوجهت أدوات الحسّ لدى فؤاد لالتقاط الإشارات الواردة من حميد، بينما أخذت الصورة تخبو في ذاكرته المؤقتة.
وحين افترقا عن بعضهما، ابتسم فؤاد وهو يفكر في ما تم تبادله مع حميد من أحاديث، مما سمح بإرسال بيانات لقائهما العابر إلى الذاكرة الطويلة وتثبيتها بفضل وجود ما يربطها أولاً وبفضل إعادة التفكير فيها، فيما غابت صورة الحسناء من الذاكرة كلياً.