للحياة معنى أعمق مما تتصور

يحكى أن هناك شاب عاش معظم حياته بعيداً عن العائلة والمنزل، إلا أن هذا لم يمنع أهله من تقديم المساعدة له إن احتاجها. صورة الابن لا تفارق مخيلة الأب الذي يرسل دوماً المال. الأم بدورها تبعث دوماً اشتياقها، وتحتضن ابنها الذي تجسد في صورة وغرفة صغيرة. هذا الشاب الريفي البسيط، قد أغرته حياة المدن بكل ما فيها. لكنه لم ينسَ دروس الحياة التي تعلمها من والديه. في حياته البعيدة اتخذ الشاب مبدأ ” مساعدة الجميع هدفاً له”. وبالفعل لم يخذل الشاب أحداً من قبل أبداً، فقد كان يمد العون للجميع. كان يرى في هذا هدفاً لكي يحترمه الجميع، إلى جانب ذلك إن احتاج للمساعدة يوماً ما سيقوم الآخرون بالمثل. مضت الأيام والأشهر وبدأ الشاب يعاني في حياته. لم يأتِ أحداً لمساعدته، لا أصدقاء ولا زملاء. عندها شعر الفتى بالندم والعار على كل ما فعله. عندها أدرك الحقيقة المطلقة عن الأخلاق والمبادئ.

 

لم يفهم هذا الفتى ما الذي حصل؟ بدأ بالتفكير.. “هل أنا مخطئ أم هم؟ ..لقد فعلت الصواب. هل هذه محصلة من يفعل الخير؟”

وهكذا بدأ الفتى يعاني في حياته من الحكمة التي في الأساس قد تعلمها من أبيه وأمه : “ساعد الآخرين وهم في المقابل سيفعلون المثل” 

ساعد الآخرين لكي يساعدوك. قم بدعوة للعشاء لكي يزيد المرتب. صادقه فوالده غني. تزوجيه فهو يملك الكثير من المال. تزوجها فهي جميلة. سأفعل هكذا كي أحصل على ما أريد. أظهر قدراتك كي يعجب بك الآخرون. افعل هذا لتحصل على هذا. هكذا تسري الحياة اليوم. الناس لا تفعل شيء إلا لكي تحصل على المقابل. يمكنني عد الملاييين من الأمثلة في هذا السياق. الإنسان في هذه الايام يتجه شيئاً فشيئاً نحو الهاوية. إنها السطحية التي تسيطر على الفرد والمجتمعات. لقد أصبح الإنسان عبارة عن صورة خارجية يظهر نفسه للآخرين. الثياب، المال والشهرة أصبحت فناً. تفاح معلق على الجدار أصبح يسمى فناً!. قيادة سيارة فارهة أصبح أساس الزواج. النجاح بدأ يسمى التلاعب والخداع. اثنا عشر قانوناً لكي تقنع من تشاء. عشر طرق لتبدو أكثر وسامة. لقد ماتت القيم والأخلاق ونحن من فعل ذلك. قيمنا تحولت إلى ذكرى وقصص وأساطير. قيم مثل الوفاء، الشرف، الكرامة، العدالة والمساواة أصبحت من الماضي، واليوم هدفنا هو إثبات مدى جمالنا وكيفية جعل الآخرين يعشقوننا. 

للحياة معنى أعمق مما تتصور
للحياة معنى أعمق مما تتصور

 لقد ماتت المبادئ ونحن من فعل ذلك. نحن من اخترع وسائل التواصل الاجتماعي لهدفٍ سامٍ واليوم نستخدمه كوسيلة لإظهار سطحيتنا. لم نعد نتواصل ونطرح قضية ربما نغير العالم بها. هذه المنابر تحولت إلى أماكن، نرغب من خلالها في كسب بعض الاهتمام. 

البعض يمتلك آلاف الأصدقاء على هذه المنابر ولا يعرف أحداً منهم. لقد ماتت الصداقة في هذه الأيام. إن مقولة “الصديق وقت الضيق” إثبات للسطحية اليوم. الصديق ليس فقط أداة تستخدم عند الحاجة. الصديق شيء أكثر من ذلك، شيء أعمق. 

 

لقد ماتت القيم وماتت الإنسانية معها. شعوب تعيش وكأنها في كوكب آخر، وشعوب تموت ولا أحد يأبه لمصيرها. وعندما اجتاح الوباء وضُرب الضعيف والقوي. قال الأقوياء: ” كلنا بشر…لنتحد أمام هذا الوباء” وبدأت القيم البشرية تظهر وبدأت الإنسانية تفيق وخاصة تلك التي ترقد في الغرب. أين كنتم عندما كان أولئك الضعفاء يموتون من المرض وأنتم تنعمون في الرخاء؟ أين كنتم عندما هُجّرت شعوب وقُتلت أخرى؟ ستتكرر القصة نفسها عندما ينتهي الوباء ويعود القوي قوي والضعيف ضعيف.

 

رغم كل هذا يتساءل الجميع ما الخطر؟ ما الضرر إذا كانت هكذا هي الحياة اليوم؟ ما الضرر أن يكون الإنسان سطحياً؟ ما الضرر إذا كان المرء يبحث في محركات البحث عن عشر طرق لتبدو أكثر وسامة أو “كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس” ؟ أو ما الضرر أن يملك الإنسان قيم مثل النجاحات المادية، الشهرة و الانجذاب (أن يكون محبوباً من الجميع)؟ 

لقد عاش صديقي الفرنسي إمانويل “كانت” طيلة حياته يدرس القيم والمبادئ والضمير الحي. كان يرى على عكس الآخرين أنه يجب يكون هناك فرق بين الصواب والخطأ، والإنسان يملك ضميره الحي لمعرفة ذلك. فالقدرة على التمييز بين الخير والشر فطرية فيما يتعلق بالأخلاق وهذا أمر مطلق، أي أنه صالح لكل الأوضاع ويخاطب ضمير الإنسان. حسب كانت ومبدأه في الأخلاق فإنه لا يمكنك استخدام الآخرين لتحقيق مصلحة معينة. لا يمكنك كذلك أن تساعد الآخرين لتكسب شيء في المقابل لأنه يخالف المبادئ والأخلاق. وهذه بدورها هي ثوابت كونية تقود الإنسان. لا يمكنك أن تتزوج شخصاً فقط لأنه يلبي المواصفات الجسدية، لأنك بهذا تسعى وراء مصلحة معينة وهذا مخالف لمبادئ “كانت”. لقد أدرك إمانويل كانت أن الأمثلة لا تحصى في هذا السياق لذلك قرر وضع مبادئه في نظرية أسماها القانون الأخلاقي والذي ينص على ما يلي : ” تصرّف وكأنك تتعامل مع البشرية كلها ممثّلة بشخصك، كما لو أنها ممثلة بكل شخص آخر..دائما كهدف، لا كوسيلة.” 

للحياة معنى أعمق مما تتصور
للحياة معنى أعمق مما تتصور

وهذا ما لا يفعله معظم الناس اليوم. أنت ترى من الذكاء أن تدرس كوسيلة لإرضاء والديك، لا كهدف نبيل لأن الدراسة حسب مفهومك هي أمر مهم. كذلك تقوم بدعوة صديقك للعشاء ليس لأنك كريم وتعطي أهمية للصداقة بل كوسيلة قد تنفعك في المستقبل. و قد تفعل أكثر من هذا. فقد تشتري بيتاً فاخراً وتقوم بإرضاء شريكك في الحياة كوسيلة ليعطيك الحب، وقد تقوم بالصلاة ليس لأنك ذو إيمان بل لأنه إذا لم تقم بذلك سوف يغضب منك من هم حولك. 

 

وهذا ما يسمى ب ” سياسة الشرط والتفاوض “. سأعطيك هذا، سوف تعطيني الحب في المقابل. سأعدك وسوف تقوم بالمثل. البعض سيرد : لكن يا أخي أن أعرف مصلحتي وأقوم بما يرضيني. لكن هذا لا ينفع. لأنك ببساطة لا تستطيع أن تشترط الحب على أهلك. لا تستطيع أن تقول لابنك افعل هذا وسأعطيك الحب أو أن تطلب من والدك المال كي تحبه أكثر. لا يمكنك بالأحرى أن تستخدم أقرب الناس لك كوسيلة. لا يمكنك أن تستخدم والدك كوسيلة لتصل إلى ما تريد. لا يمكنك أن تستخدم الخداع لتقنع ابنك بأن يحبك. ربما تستطيع فعل هذا على مدير العمل لكن ليس على ابنك. بمعنى آخر لا يمكنك اعتماد الشرط والتفاوض في العلاقات الطويلة الأمد لأنها تبنى على وسائل للوصول إلى غايات محددة. وهذا ما يفسر فشل الكثيرين في حياتهم سواء كان على صعيد العمل، الزواج، العائلة والصداقات. 

 

إن النضج الحقيقي والأخلاقي هو أن تتصرف وفق القانون الأخلاقي ألا وهو ضميرك. الأطفال يسعون دوماً وراء المتعة. إذا أراد الطفل المثلجات يفعل أي شيء كي يصل إليها كالسرقة مثلاً .فهدف الطفل دوماً المتعة. البالغ أيضاً يريد المثلجات لكن يرى في السرقة خطأ، لذلك يستخدم تلك اللعبة التي تسمى “الشرط والتفاوض” ويذهب وفق قواعد اللعبة ويقوم بخداع والدته لكي يحصل على المثلجات. هو أيضاً يهدف إلى المتعة في النهاية لكن يجب أن يتصرف بذكاء. في نهاية المطاف كلاً من الطفل والبالغ يهدفان إلى المتعة. أما الناضج لا يستخدم أي غايات وراء مبادئه. الناضج يريد مثلجات فقط، إن حصل عليها فهذا جيد وإن لم يحصل لن يحدث شيء. وهذا هو الفرق بين الناضج والبالغ، وهو أن البالغ يستخدم المبادئ للوصول إلى المتعة، ألا وهي الوسيلة في نظر “كانت” أما البالغ فلديه مبدأ ثابت ألا وهو الهدف الذي لا يقود إلى شيء إلا نفسه. لذلك النضوج ليس مرتبط بفترة عمرية محددة بل هو عقلية وأخلاق. لطالما رأيت بالغين كبار في السن وناضجين صغار في السن. 

للحياة معنى أعمق مما تتصور
للحياة معنى أعمق مما تتصور

 بعض الناس ترى في سياسة “التفاوض والشرط” والبلوغ تكتيكاً مناسباً في الحياة والنجاحات العملية. إذاً قراءة قوانين السيطرة، سأسيطر على المدير وألبي رغباته كي يزداد مرتبي. سأدرس لغة الجسد كي أخدع العمال بحبي لهم. لكن ما رأي عراب هذه الأمور في هذا التكتيك؟ ومن هو غير ستيفن كوفي صاحب واحد من أشهر الكتب في التاريخ العادات السبع للناس الأكثر فعالية. لقد كتب :” …الأعمال التي نشرت خلال الأعوام الخمسين الماضية كانت سطحية. فقد كانت تسودها الصور الاجتماعية العقلية والتكنيكات والحلول السريعة، والتي هي عبارة عن إسعافات أولية للمجتمع وأسبرين مسكن لأوجاعه المزمنة…..وفي تناقض تام فإن الكتابات التي تناولت النجاح في أوائل المائة وخمسين عاماً الماضية كانت تركز على ما يطلق عليه السمات الأخلاقية باعتبارها أساس النجاح- مثل التكامل والتواضع والوفاء وضبط النفس والشجاعة…”    

 

لذلك كن ذو مبادئ وذو قيم ثابتة كونية لا تهتز إن اهتزت الأرض. كن كريماً ليس لسبب ما إنما لأنه مبدؤك. كن مساعداً فقط لأنك تحب المساعدة. كن طيباً لأنك تريد أن تكون طيباً. ولا تسرق لأنك خائف بل لأن السرقة فعل خاطئ. ولا تدرس لأن والدك ألحّ عليك بل ادرس من أجل الدراسة نفسها. لكن لا تكن ذو مبادئ لها غاية بل فقط ذو مبادئ. لا تحاول أن تكون بالغاً بل كن ناضجاً. لأن الناضج هو الذي يملك معنى أعمق لحياته. بكلمات أخرى، لا تكن سطحياً. لاتكن من أولئك الذين يعشقون المظاهر أو الثياب أو يبحثون في محركات البحث عن ” كيف أجعل الجميع يحبني” لا تكن سطحياً لأنك عندها سترى الحياة كلها بهذا الشكل ولن تصل إلى مضمون الأشياء وجوهرها، إلى معناها. 

 

للحياة معنى أعمق عادةً لا نألفه إلا بعد فوات الأوان…بعد أن نفارق أحبابنا أو بعد عودة الحياة إلينا. للحياة كذلك معنى أعمق عندما ترى تلك القصص التي تحدثك عن البطولة والتضحية التي يقدمها البعض قرباناً في سبيل الآخرين. والحياة لابد أن تكون لها معنى أعمق لاسيما إذا أصابت التراجيديا الدنيا كلها وفتكت بالقوي قبل الضعيف والغني قبل الفقير. خذ فيروس كورونا على سبيل المثال.  

 

المصادر:

  • تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانول كانت 
  • العادات السبع للناس الأكثر فعالية، ستيفن كوفي ص 26-29 
  • الخراب، مارك مانسون ص 209 – 213