هل النساء أكثر انسانية من الرجال؟
خاص أكاديمية نيرونت لـ التطوير و الإبداع و التنمية البشرية
زعم الدالي لاما (الراهب البوذي و الزعيم الروحي لقبائل التبت) مؤخراً أنّ المرأة تملك الإمكانيات البيولوجية لبث مشاعر الحنان والتعاطف تجاه الاخرين أكثر من الرجل. و السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن للعلم أن يدعم هذا الزعم؟
خلال مؤتمر صحفي عُقد في استراليا مطلع هذا الشهر, أطلق الدالي لاما شعار عنوانه “المزيد من القادة الرحماء” و يقول الدالي لاما في هذا الصدد “تمتلك الإناث من الناحية البيولوجية قوة تحمل و مشاعر حساسة تجاه الآخرين”.
اشتُهر الدالي لاما بانخراطه في النقاش مع العلماء و تحريضه لهم لدراسة تأثير التأمل على الدماغ، و لكن هل يؤيد العلم حجته بأن النساء أكثر إنسانية من الرجال!
يميل علماء النفس بشكل عام الى التَحفّظ تجاه مثل هذه الآراء العنصرية، و ذلك لمعرفتهم أنّ المعطيات العلمية لا تدعم مثل تلك المزاعم. و في حال قمت بسؤال عالم نفسٍ ما على سبيل المثال حول ما يميّز تركيبة الدماغ لدى الذكور عنها لدى الإناث، فإن ذلك سيضعه أمام وقت عصيب للقيام بهذا. و على الرغم من أنه تم اكتشاف الإختلافات بين دماغي الرجل و المرأة- حيث يبدو أن النساء يملكن قدرة أكبر على استخدام فصي الدماغ الأيمن و الأيسر، و بالتالي فإن الجزء الرابط بينهما في دماغ المرأة ذو سماكة طفيفة أكثر من نفس الجزء الموجود في دماغ الرجل- فإنها تعتبر طفيفة و ثانوبة و لا يمكن الجزم بأن هناك منطقة واحدة من الدماغ البشري تميز بشكل واضح دماغ الذكورعن دماغ الاناث.
وعلاوة على ذلك, فقد وجد العلماء أنّ مشاعر الرحمة و الإنسانية هي مشاعر فطرية وغريزية موجودة لدى الحيوانات و الإنسان من الجنسين على حدٍ سواء. و تبين الأبحاث التي تم إجرائها على الكائنات الحية (الإنسان و الحيوان)، أنها تملك بطبيعة الحال الدافع الغريزي الداخلي تجاه مساعدة الآخرين. و يبدو أنّ هذه النظرية المسماة ب ” الغريزة الانسانية” و التي طرحها Dacher Keltner المدير المؤسس لمركز العلوم، قد ضمِنت للإنسان و الحيوان البقاء على قيد الحياة. و تشير الأبحاث الخاصة بجامعة ستانفورد للباحث Robert Sapolsky أن هذه الغريزة الإنسانية مرتبطة بشكل وثيق في تحسين التكاثر لدى الثديات.
إقرأ : كيف تحول المشاعر السلبية إلى قوة ايجابية بذكاء
يمكننا القول باختصار أنّ المشاعر الإنسانية مسألة طبيعية فطرية، و لا تندرج الإختلافات في التعبير عنها بين الجنسين ضمن تلك الدراسات. بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ الرجال و النساء متشابهين في طريقة التعبير عن تلك الأحاسيس، مما أثار اهتمام العلم و العلماء حول هذا الموضوع. و بما أن النساء يملكنَ طُرق تعبير عن مشاعرهن الإنسانية بشكل أوضح من تلك المُتبعة من قبل الرجال، فإن مشاعر التعاطف و الرحمة تبدو ظاهرة لديهنّ أكثر مما تبدو عليه عند الرجال، مما يجعل طرق الرجال في التعبير عن مشاعرهم تجاه معاناة الآخرين غير واضحة.
التشابه أكثر من الاختلاف
توضح نتائج استبيانات التقرير الذاتي، أنّ النساء لديهن مشاعر إنسانية رحيمة تظهر جليّة في حياتهنّ بدرجة أكبر من الرجال. و يُعزى التفاوت في التعبير عن المشاعر الانسانية بين الرجل و المرأة حسب التقرير الذاتي، إلى المنهجية الخاصة بالتنشئة الإجتماعية و المُتَّبعة في المجتمع بشكل عام. إننا نعلم أنّ الدماغ يشبه مادة “البلاستيك”، و بالتالي تحدث داخله تغييرات معينة استجابة لموقف معين. وقد وضحّت مجموعة كبيرة من الأبحاث أن الرجال والنساء يملكون خبرات اجتماعية مختلفة للغاية و التي تم اكتسابها ابتداء من سن الطفولة. يمكننا الإنتباه إلى الفتيات الصغيرات أثناء لعبهن بالدمى و عربات الأطفال، (مما يدل على ميولهنّ نحو سلوكيات الرعاية). بينما يكون لعب الأولاد الصغار متعلقاً بأفعال الأبطال الخارقين و الجنود. (مما يدل على ميولهم نحو سلوكيات القتال و الدفاع). فحينما تبكي الفتيات أو (النساء) كردة فعل نحو موقف ما، فإنّ ذلك يُعتبر شيئاً طبيعياً مرتبطاً بطبيعة المرأة, و لكن إذا ما قام أحد الاولاد أو(الرجال) بالبكاء، فهذا يُنظر إليه اجتماعياً على أنّه علامة ضعف و فعل “غير رجولي”.
إقرأ : كيفية التحكم بالمشاعرالسلبية وبردود افعالنا
لذلك عزيزي القارئ هل يمكنك يا ترى معرفة كم عدد الإختلافات الظاهرة عند الرجال و النساء في مرحلة البلوغ، و التي يمكن اعتبارها كنتيجة لسنوات من اتباع أسلوب التنشئة الاجتماعية المعروف لدينا؟
لقد أثّرت التنشئة الإجتماعية بدورها على ما تعلمه الرجال و النساء خلال حياتهم بخصوص كيفية التعامل مع المشاعر الانسانية المتعددة، كمشاعر العطف و الشفقة. و قد بينت دراسة خاصة أجراها داكر كيلتنر تتعلق بالمشاعر المصاحبة للَّمس البشري ، حيث طُلب من المشاركين في الدراسة التعبير عن مشاعرهم الداخلية المختلفة لدى لمس كل شريك يد المشارك الآخر، و أيضا طُلُب من هؤلاء بدورهم التعبير عن مشاعرهم عند لمس المشاركين الآخرين لأيديهم. علماً أنَّ المشاركين استطاعوا ببساطة تخمين مشاعر بعضهم بعضاًعند تلامس الأيدي دون رؤية كلٍ منهم وجه الشريك الآخر. وعندما كان كلا الشريكين في الإختبار رجال، فقد بينت النتائج المترتبة عنه أنّ ظهور مشاعر التعاطف التي تم التعبير عنها من قِبلهما ، كان محض صدفة . بيد أن المشاركين كانو أكثر دقة في التعبير عن مشاعرهم حينما كان أحد المشاركين على الأقل امرأة. فالمرأة تعلّمت من خلال التنشئة الاجتماعية كيفية الإدراك و التعبير عن تلك المشاعر بسهولة أكبر باعتبار أنّ التعاطف و الحنان سمة انثوية و التعبير عنها مقبول أكثر لدى النساء.
و قد ظهر للعيان أنه ثمة سببٌ آخر أطلَعنا عليه بحث شيلي تيلر من جامعة كاليفورنيا فيما يتعلق بقدرة النساء على التعبير عن مشاعرهن الإنسانية بسهولة و سلاسة، حيث بيّن بحثه أنّ الرجال و النساء يستجيبون للتوتر و الضغط بشكل متباين. و يُعزى هذا التباين إلى الطريقة التي اكتسبتها المرأة للتعبير عن مشاعرها بصورة أكثر وضوحاً. استنتج تيلر أنّ وضعية “المجابهة او الهروب” هي الاستجابة المميِّزة للرجال تجاه حالتي التوتر و الضغط. في حين تميل النساء عموماً إلى إظهار اللطف في التعامل و الرغبة في إقامة علاقات صداقة. فعندما تواجه المرأة وضعية التوتر و الضغط، تميل الى إظهار ردة فعلها من خلال التواصل الإجتماعي و الترابط مع الاخرين و السعي للحصول على مشاعر الدعم و التعاطف من أفراد المجتمع من حولها.
لقد تبلورت و تكونت هذه النزعات و الميول نحو الترابط الإجتماعي منذ انخراط الإنسان مع أفراد المجتمع من حوله. حيث تُعتبر تربية الأبناء و حمايتهم من المسؤوليات الملقاة على عاتق المرأة، في حين أنّ الرجال يميلون نحو أعمال الصيد و الحروب. غير أنه أشارت دراسة أجراها الباحثيَنMarkus Heinrichs و Bernadette von Dawans إلى أنّ ردة فعل الرجال أيضاً تجاه التوتر و الانفعال يمكن أن تظهر من خلال سعيهم للحصول على الدعم و التعاطف من الآخرين.
و قد بيّنت إحدى الدراسات من خلال تصوير أدمغة المشاركين في الدراسة من الجنسين، تباين نشاط الدماغ بين الرجال و النساء عند الشعور بالشفقة تجاه أحدٍ أو مشهدٍ ما. حيث قارن الباحث Roberto Mercadillo من الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك نشاط الدماغ لدى الرجال و النساء عند ظهور مشاعر الشفقة و الرحمة لديهم. فقد طَلب من المشاركين أن يكذبوا في الحديث أثناء تصوير أدمغتهم بواسطة جهاز الرنين المغناطيسي، و عَرض عليهم صور مثيرة للشفقة، مما جعل المشاركين من الجنسين يُبدون مستوىً متقارب من مشاعر الرحمة و الشفقة تجاه تلك الصور المعروضة أمامهم.
بيد أنّ الأجزاء الدماغية التي نشطت أثناء ظهور تلك المشاعر مختلفة بين الرجال و النساء. في حين تشير الدراسة إلى عدم وجود اختلاف في قوة المشاعر الإنسانية الظاهرة لدى الجنسين و إنما تُبين اختلاف طريقة التعبير عن تلك المشاعر بين الرجال و النساء.
كشف هذا البحث أنّ الاختلافات العصبية الحيوية تبدو جليّة من خلال التعبير عن المشاعر. ففي بعض الأحيان ترتفع نسبة هرمون الأوكسيتوسين أو ما يسمى “هرمون العناق” أو “هرمون الحب” عند النساء و ذلك لارتباط نسبة هذا الهرمون في الجسم بالعلاقات بين الجنسين و الزواج و الصلات الإجتماعية بين الأفراد. و يقوم الجسم بإفراز هذا الهرمون أثناء الولادة و الإرضاع و أثناء ممارسة الجنس لكل من الرجال والنساء.
أنواع المشاعر الانسانية.
إنّ السبب الذي يجعلنا نعتقد أن النساء أكثر انسانية من الرجال، هو منظورنا الأحادي الجانب تجاه المشاعر الانسانية. حيث أن أحاسيس الحنان والعطف و الليونة والوداعة والمشاعر العاطفية الدافئة مرتبطة لدينا أكثر بالمفهوم الأنثوي. و بالرغم من ذلك، فإن التعبير عن مشاعر الرحمة لا يمكن حصره فقط في حالتي الرعاية و الأمومة. حيث يمكن الأخذ بعين الإعتبار حالات يمكن ان تُسمّى أعمالاً بطولية لأناس قاموا برمي أنفسهم بأوضاع خطيرة لمساعدة الآخرين و إنقاذهم. و بالتالي يمكن إدراج مشاعر العنف و الشجاعة و وحتى العدوانية منها ضمن إطار المشاعر الإنسانية
بدلاً من الإشارة الى أنّ النساء لديهنّ مشاعر إنسانية أكثر من الرجال، أرى أنّ النساء يمكنهنّ التعبير عن مشاعرهنّ بطريقة مختلفة عن تلك التي يتبعها الرجال. لقد تطورت تقافة التعبير عن المشاعر و الأحاسيس لدى المرأة، ليتجسد ذلك في سلوكيات الرعاية و الترابط و التعاطف. أما فيما يتعلق بمشاعر الرجال، فهي تنطوي على إدراجها في سلوكيات الحماية و الوقاية لضمان بقاء النوع. فمشاعر الشفقة و الرحمة قد صُنِّفت بحسب المظهر و الجوهر تبعاً لاحتياجاتنا التطورية من أجل البقاء. و ما دامت النساء يُعبرنَّ عن مشاعرهنّ من خلال الحنان و الرحمة، يميل الرجال إلى ترجمة مشاعرهم من خلال العنف .
لا يمكن للعموميات أن تكون دقيقة بشكل عام. فجميعنا نملك وسائل معينة للتعبير عن مشاعرنا سواء بالعطف و الحنان أو بالقسوة و العنف. تأمّل في موقف أم تصرخ وتسحب طفلها بعيداً عن سيارة مسرعة قادمة باتجاهه، (هنا تظهر مشاعر الرحمة لدى الأم بأسلوب عنيف) أو بحالة أفراد في الجيش يربطون على قلوب بعضهم بعضاً عند وفاة أحد زملائهم. ( هنا تبدو واضحة مشاعر العطف لدى هؤلاء بطريقة لطيفة). لقد خلق الله بداخلنا جميعاً مشاعر الحب و العطف و الحنان. إلّا أنّ التباين يكمن في طريقة التعبيرعن تلك المشاعر الانسانية. فبدلاَ من التركيز على مسألة مَن مِنَ الجنسين يملك مشاعر أكثر رحمةً و انسانية، فإن السؤال ينبغي أن يكون: ما هي الأساليب اللطيفة التي لا تعد و لا تحصى و التي يمكن للإنسان اتباعها للتعبيرعن مشاعره ؟؟؟
ترجمة : رهف الحواصلي
تدقيق : راما الشامي
تنسيق : جوني
إقرأ المزيد من المقالات الممتعة والمفيدة :