ماذا يحصل عندما تصبح الرّحمة مؤلمة؟

ماذا يحصل عندما تصبح الرّحمة مؤلمة؟

خاص أكاديمية نيرونت لـ التطوير و الإبداع و التنمية البشرية

 

النّص الآتي هو نسخة محرّرة عن محاضرة ألقاها جيريمي آدم سميث من مؤسّسة “الخير الأعظم” على الممرّضات في مركز للخدمات الصّحيّة في بيركلي عن كيفيّة التّغلب على الإرهاق النّاتج عن التّعاطف.

 

الرحمة

 

وأنا سأحذّرك: هذه المحاضرة صعبة نوعاً ما، ومليئة بالمفارقات. فأنا سأتكلّم عن الأفضل في طبيعة البشر وسلوكهم، وأيضاً الأسوأ. سأتكلم عن كيف أنّ البشر يبدون مصمّمون على الاهتمام ببعضهم البعض، ولكن أيضاً عن كيف أنّ العمل المنهك نتيجة الرّعاية اليوميّة يمكن أن يكون مدمِّراً للرّوح. وفي النّهاية، آمل أن أشارككم أفكاري عن كيفيّة العمل مع الأشخاص الآخرين لإظهار الخير في كلّ منّا.

أنا من الأشخاص الّذين يستيقظون مبكّراً، وأقوم بمعظم كتاباتي في الصّباح الباكر. قبل شهر، وعند السّاعة السّادسة والنّصف صباحاً كنت أمشي متوجّهاً إلى مقهى، وكنت أقوم بما أقوم به عادة خلال نزهاتي الصّباحيّة هذه، وهو أن أنظر حولي متأمّلاً الآثار الفيكتوريّة والتّلال والضّباب في المكان الّذي أعيش فيه وأن أفكّر في مدى جمال هذا كلّه.

بدون سابق إنذار، شعرت بضربةٍ على مؤخّرة رأسي، تجاوزني شخص ما راكضاً وهو يحمل قضيباً حديديّاً. وسقطت أرضاً على رُكبتيَّ ووضعت يدي على مؤخرة رأسي وشعرت بها مبتلّة ودافئة. كانت هناك خطىً فنظرت للأعلى، كان هناك شاب آخر يمشي باتّجاهي حاملاً مسدّساً. أذكر أنّ وجههُ بدا يافعاً جدّاً وأنّ صوته كان متهدِّجاً وهو يطلب منّي محفظتي وحقيبة الظّهر الخاصّة بي، وأستطيع القول بثقة أنّه بدا مرتعباً أكثر منّي بسبب ما كان يحصل.

بقيت هناك لدقيقة طويلة وأنا لا أشعر بشيء. ثمّ سمعت صوت طقطقة كحبّات المطر، لقد كنت أنزف على الرّصيف. لقد غادر مهاجميَّ المكان، مع أنيّ لم ألاحظ ذلك، لذلك وقفت وبدأت أمشي مترَنّحاً عائداً إلى البيت. وسرعان ما أدركت أنّني لن أتمكّن من ذلك.

أريد أن أتوقّف هنا لأصف ما كان يدور في خاطري لأنّني أظنّ أنّه مثير للاهتمام: لم أكن أرغب برنّ جرس باب جاري لأنّني لم أُرد أن أزعجه، فهو رجل أكبر مني سنّاً رأيته عدة مرّات على الرّصيف ولكنّني لم أكلّف نفسي أبداً عناء التّعرف إليه. فكّروا بالأمر: ها أنا ذا مصاب بإصابة يتبيّن فيما بعد أنّها خطيرة، وما زال شيء داخليّ، شيء يتكيّف عليه الأمريكيّون طوال حياتهم، يقاوم طلب المساعدة. اللعنة ! أنا بمفردي ولا أحتاج شيئاً!

 

الرحمة

 

هذه الإصابة؟ إنّها مجرد جرح في اللحم! ولكن عند تلك النّقطة كان لديّ خياران: إمّا أن أستلقي على الرّصيف منتظراً أن يمرّ شخص ما، أو أن أرنّ جرس الباب. رننت الجرس.

“من هناك؟” سأل الجار بصوتٍ يدلّ على أنّه على استعدادٍ لِصَرفي.

اعتذرت عن إزعاجه وشرحت له الوضع من خلف الباب المغلق. فتح الباب فوراً وأحضر لي منشفة لأضعها على رأسي واتّصل بالنّجدة 911. حضر المسعفون والشّرطة بعد وقت قصير. وفي غرفة الطّوارئ، قام الطّبيب والممرّضة بإغلاق جرحي بمرهم لاصق. وبعد أن أمسكت الشّرطة بالولدين اللذين هاجماني، أمضيت ما تبقّى من وقتي في مركز الشّرطة. وفي وقت معين ذهبت إلى غرفة الدّوريات لإجراء مكالمة هاتفيّة ووجدت ثلاثة رجال شرطة جالسين لمشاهدة برنامج تلفزيونيّ عن التّحقيقات عن الجرائم. سألتهم إن كان هذا فيلماً تدريبيّاً، فما كان من أحدهم إلّا أن ضحك.

حسناً إذن، فلنحلّل الأمر، ثلاثة أشخاص هم الّذين أذوني في ذلك الصّباح: فتى يحمل قضيب حديديّ وفتى يحمل مسدساً، وفتى يقود السّيارة، هذا أمر فظيع. ولكن كم عدد الأشخاص الّذين ساعدوني؟ فلنعدّهم. أوّلهم كان الجار الذي فتح الباب ومسعفين وطبيب وممرّضة والكثير من رجال الشّرطة، خاصّة الشّرطي إد روبلز وشريكه اللذان قضيا معظم يومهم وهم يقودان السّيارة بي وبعائلتي حول المدينة. رجال الشّرطة هؤلاء عرّضوا أنفسهم للخطر عندما اعتقلوا مهاجميّ المسلحين.

 

وقد ساهم أصدقاؤنا بالمساعدة أيضاً، فقد حضروا لمجالسة إبني فور تبليغهم بالحادث وساعدونا على إدارة مهمّاتنا.

وفي وقت لاحق وبعد عودتي إلى المنزل، اتّصل ثلاثة أشخاص لأنّهم وجدوا أغراضي في ثلاثة مواقع مختلفة في المدينة. هؤلاء الأشخاص لم يكونوا ملزمين أن يفعلوا ذلك، ببساطة فعلوا.

وماذا عن الأشخاص المجهولين؟ متلقّيّة رسائل النّجدة 911؟ الإداريّون الّذين يديرون المستشفى ودوائر الشّرطة؟ النّاس الذين يدفعون الضّرائب الّتي تموّل الشّرطة وعمليات الإنقاذ؟ الأشخاص غير المعدودين في التّاريخ والّذين عملوا على تأسيس دوائر الشّرطة والمستشفيات وخدمات الإسعاف، والاكتشافات الطّبيّة اللامعدودة الّتي جعلت النّجاة من إصابتي ممكنة.

إنّ التّفكير بعدد الأشخاص الذين ساهموا بالاعتناء بي يحيّرني ويدهشني. إنّ شخصاً متشائماً قد يركّز وبقلق شديد على ثانية العنف المحدّدة ويدّعي أنّ هذا التّصرف يكشف الوجه الحقيقيّ للإنسانيّة. وقد يدّعي أيضاً أن الجار الذي فتح بابه لم يكن لديه خيار في الواقع، لأنّني جعلته يقوم بذلك عن طريق إشعاره بالذّنب. وقد يقول أن رجال الشّرطة ما هم إلّا جنود يؤدّون وظائفهم وأنّ الأطبّاء والممرّضات مهتمون بالأمر فقط من أجل الرّاتب.

ولكنّ هذا بالضّبط هو المثير بخصوص هذه الحادثة وحوادث مشابهة. عندما كنت في مأزق، شعرت بشبكة اجتماعيّة ملتفّة حولي لتلتقطني وأنا أقع. وهذا الالتفاف بدا اعتياديّاً وانعكاسيّاً ومألوفاً وموجوداً في كلّ مكان، أنا أستطيع المجادلة بأنّ الشعور بالذّنب لعدم تقديم المساعدة مهمّ، لأنّه دليل على أهمية المساعدة لنا. وبعيداً عن الشعور بالذّنب، فإن المساعدة كانت رحمة. وقد اختبرت الرّحمة كأمر فرديّ، ولكن أيضاً كأمر مؤسّساتيّ.

ما هي الرّحمة؟ هذا موضوع عليه كمٌّ لامعقولٌ من الجدال بين العلماء. عالم النّفس داتشر كيلتر الّذي يرأس مركز الخير الأعظم العلميّ الّذي أعمل به يُعرّف الرّحمة على أنّها “شعور بالاهتمام لتحسين شؤون شخص آخر في حالة معاناة أو بحاجة إلى عون”. وهذا مختلف عن التّعاطف اّلذي هو فهم شعور شخص آخر ومطابقته لمشاعرك. إذن فالتّعاطف شعور، أما الرّحمة فهي عمل.

وحسب هذا التّعريف، فإنّني قد اختبرت مقداراً كبيراً من الرّحمة في ذلك اليوم، بدءاً بالجار انتقالاً إلى الشّرطة ثمّ الممرّضات ثم أصدقائنا – أنماط مختلفة من الرّحمة. رحمة أصدقائنا انبعثت من خلال التّعاطف، أمّا رحمة الأطبّاء والممرّضات فأستطيع القول أنّها نفّذت بدون الكثير من التّعاطف. لم يكونوا يطابقون مشاعرهم مع مشاعري، وفي الحقيقة فإنّ الطبيبة بدت وكأنّها تبعد هذه المشاعر مسافة ذراع، ومع ذلك فإنّهم فعلوا أقصى ما في وسعهم، وأقتبس هنا، “ليحسّنوا شأن شخص آخر في حالة معاناة” – وهو أنا في هذه الحالة.

لماذا تكون الرّحمة عالميّة لهذه الدّرجة، وليس فقط عند الأفراد بل من خلال الشّبكات والمؤسّسات الاجتماعيّة؟ لقد اعتقد لفترة طويلة من الزمن أن الرّحمة هي الاستثناء وان الأنانيّة هي القاعدة. وبعد ان طرح تشارلز داروين نظرية التّطور، فإنّ العديد من الأوروبيين فسّروا البقاء للأفضل بأنّ الأفضل فقط يجب أن يبقى، حتّى أنّ الأوروبيين اخترعوا أيدولوجيّة سمّيت ﺑ ” الدّاروينيّة المجتمعيّة”، والّتي تؤمن بأنّ الفروقات العقليّة والسّلوكيّة

 

المزعومة بين الأشخاص ذوي ألوان بشرة مختلفة متجذّرة بيولوجياُّ ، جاعلين بعض الأجناس ملائمة لتحكم والبعض الآخر ملائماً لأن يخدم.

ولكنّ هذا كلّه كان خاطئاً منذ البداية لأنّ نظرية داروين للتّطور اقترحت أنّ الخير في البشر هو طريقة للتّكيف مثله مثل الشّرّ تماماً. وبكلمات أخرى، نحن لدينا رحمة لأنّها تساعد جنسنا على البقاء. وقد كتب داروين في كتاب أصل الإنسان: “إنّ الأعمال الرّحيمة تبدو كنتيجة  بسيطة لتلك القوة الأعظم للغرائز الاجتماعيّة والأموميّة أكثر من أي دافع أو غريزة أخرى؛ لأنّ هذه الأفعال تؤدّي بشكل عفويّ زائد عن الحدّ الطّبيعيّ اللازم لاستجلاب ردود الفعل أو للشّعور بالمتعة أو الألم في نفس الوقت، وبالرّغم من ذلك فإنّها إن منعت لأيّ سبب من الأسباب فإنّ ذلك قد يسبب الشّعور بالحزن أو حتّى التّعاسة. وبكلمات أخرى، فإنّ غريزتنا النّاشئة لمساعدة الأشخاص الآخرين هي ردّ فعل انعكاسيّ كالابتسام في وجه شخص بادرنا بالابتسام أو الانحناء عند سماع صوت طلقة ناريّة. وعندما نمنع من التّصرف وفقاً لغريزة الرّحمة فينا فهذا يؤلم، لأنّنا نشعر عندها بتعاسة والأثر قد يكون مميتاً.

لقد كان كلّ من الزّمن والعلم رؤوفين مع داروين لأنّ الكثير من توقّعاته عن المشاعر وعن الطّبيعة البشريّة أكدّت بأبحاث على مرّ عقود من الزّمن. والأجناس الحيوانيّة الرّئيسيّة غير البشريّة، والّتي نتشارك معها بحوالي 99%  من جيناتنا، تبدي الرّحمة  في تصرّفاتها طوال الوقت، بما في ذلك توفير رعاية خاصّة للمكفوفين والصّمّ والمقعدين أو الرّفاق الجرحى، دون الحاجة إلى ذكر الأطفال الرّضع والمشاركة في ما يسمّى الرّعاية الانتمائيّة والّتي  تستلزم أكل الحيوانات للحشرات عن أجساد بعضها البعض. هنا نتكلم عن أعمال رحيمة! والآن يجب أن نؤكّد على أنّ الأجناس الحيوانيّة الرّئيسيّة غير البشريّة تقتل وتشوّه بعضها البعض كلّ الوقت أيضاً. فهي تتنافس على السّيطرة وتغتصب وتقتل الصّغار الرّضع، وحتّى أنّها تأكل بعضها البعض – مثلما يفعل البشر. ولكن قد لوحظ أن هذه الحيوانات تتصالح بعد النّزاع، حتّى الأجناس الشّرسة جدّاً مثل قردة البابون أظهرت قدرة على التّطور إجتماعياً في اتّجاهات أكثر سلمـاُ. ومع كلّ الحيوانات بما فيها البشر، فإنّ الرّحمة تزدهر في بعض المجتمعات وتتلاشى في بعضها الآخر وهذه نقطة حسم.

فللرّحمة إذن جذور تطوريّة عميقة، ولكن كيف تعبّر عن نفسها عند البشر؟ اكتشف العلماء على مدى العقود الأخيرة العديد من وحدات البناء البيولوجيّة للرّحمة والتّعاطف. فقد لوحظ أطفال رضع بعمر صغير مقداره 42 دقيقة وهم يقلّدون تعابير وجوه أمّهاتهم، وهذا سلوك تعاطفيّ. و حدّد علماء الأعصاب مشاعر إجتماعيّة سعيدة  وبهيجة خلال نشاطها في كلّ مناطق الدّماغ، مثل إيجاد التّعاطف في قشرة الدّماغ للفصّ الجبهيّ. إنّ الخلايا العصبيّة الانعكاسيّة تشتعل عندما نشعر بالحالة العاطفيّة لشخص آخر. ويطلق هرمون يسمى أوكسيتوسين خلال لحظات الثّقة والتّرابط الإجتماعيّ. حتّى أنّنا حدّدنا جينات يبدو أن وجودها ينبؤ عن الكرم والإيثار. ومن  غير المفاجئ اكتشاف أنّ أعمال الطّيبة والعرفان والرّحمة توفّر منافع صحّيّة حقيقيّة، جسديّة ونفسية.

نحن إذاً مجهّزون للرّحمة حرفيّاً. ونحن نختبرها في كلّ من عقولنا وأجسامنا، ممّا يجعلها صحّيّة أكثر. وهذا يفسر كون غياب الرّحمة مؤلماً كثيراً. فلنعد إلى الهجوم الذي تعرّضت له. ماذا لو أنّه حصل في مكان آخر ليس فيه رجال شرطة يعتمد عليهم، ونظام صحيّ، أو سيطرة للقانون، وتركت لأدافع عن نفسي؟ ماذا لو كانت بشرتي من اللون غير المناسب في الوقت غير المناسب أو المكان غير المناسب، وأدار لي الجميع ظهورهم بسبب ذلك؟ ماذا لو كنت امرأة وتعرّضت للاغتصاب وقال لي رجل الشّرطة أنّ ذلك كان خطئي بسبب ما كنت أرتديه؟

ما الذي سأشعر به عندها؟! سأشعر بالغضب الشّديد. هذا ما يحصل عندما تحرم من الرّحمة.أنا أفكّر بالفتيان الّذين هاجموني ولا أصدق أنّهم حرموا من الرّحمة في حياتهم. آمل أنّ أمّهاتهم على الأقل أحبّوهم، أشكّ أنّهم هم على الأقل أحبّوا أمّهاتهم في المقابل، ولكنّني أشكّ أيضاً، وبدون أن أعرفهم، أنّهم كانوا في طفولتهم هدفاً للعنف من أشخاص وثقوا بهم وبأنّ عدداً قليلاً فقط من البالغين منحوهم الرّعاية الّتي كانوا بحاجة لها. وأنا أعتقد أنّه من المرجح بقوة أنّهم أجبروا على الشّعور كغرباء في الولايات المتّحدة بسبب لون بشرتهم، فقد كانوا لاتينيين داكنو البشرة.

أنا لا أعفي هؤلاء الفتيان من مسؤولية جرمهم، فتوجيه العنف إالى شخص آخر من جنسك يعني قطع الرّوابط بيننا، والحرمان من التّعاطف والإنسانية يبدو لي كأفضل تعريف موجود للشّر. أنا لا أقول أن هؤلاء الفتيان أشرار، ولكنّني زوج وأب وعائلتي تعتمد عليّ وتنتظر عودتي إلى البيت، وعندما يهدّد أحدهم بأخذي من عائلتي، فهذا عمل شرير.

ولكنني أؤمن أنّنا لا نستطيع أن نردّ بالرّأفة إذا ما ووجهنا  بالشّ. ولا أؤمن بمحاربة النّار بالنّار. وأجادل بأنّ علينا بدلاً من ذلك أن نهدف لإعادة تأسيس الرّوابط بيننا كبشر، وهذا هو تعريف طيبة القلب. فعلينا أن نرد بالتّعاطف والتّخيل في وجه القسوة والغباء. علينا أن نتخطّى حدود عقولنا وأن نعبر جسر المشاعر الاجتماعيّ والبيولوجيّ لمحاولة مساعدة هؤلاء الّذين تسبّبوا لنا بالأذى، وأن نحاول أن نتخيّل السّبب الّذي دفعهم لإيذائنا. يجب أن نجعل آلامهم آلامنا، ليس من أجل  منفعتهم بل من أجل تحسين إمكانيّاتنا. هؤلاء الفتيان الّذين هاجموني يعانون بشكل أو بآخر.هم يستحقون التّعاطف وهم لسوء الحظ و على الأرجح لن يحصلوا عليه في السّجن.

وماذا عني؟ هل تتذكرون تلك اللحظة التي وصفتها؟ عندما نظرت إلى وجه الفتى الذي كان يصوّب المسدّس باتّجاهي، ورأيت أنّه كان متوتّراً وخائفاً؟  وبالرّغم من خطورة اللحظة، وبالرّغم من حقيقة أنّني كنت مصدوماً وأنّه رآني كهدف وليس كأخ، فقد كانت قدرتي على التّعاطف ما زالت مشتعلة وشعرت بومضة الارتباط عن طريق الاحساس بمشاعره انعكاسياً. والحرمان من هذه التّجربة سيكون خسارة لي أنا.

وتلك التجربة لم تكن بأيّ شكل من الأشكال غريبة. إن كنّا طبيعيّين ونتمتّع بصحّة جيّدة فسيكون من الصّعب جداً علينا أن نوقف تعاطفنا. فمشاعر الأشخاص الآخرين تدفعنا بخفّة إلى الأعلى وتحملنا معها ونتغيّر خلال هذه الرّحلة. هذا رائع في معظم الوقت، وهو السّبب في أنّ الأوقات السّعيدة و الأهل والأصدقاء مهمّون جدّاً لنا، وأنّ كلّ عمل طيّب نقوم به يقوّي من احتماليّة أن يصبح الأشخاص الآخرون طيّبون. ومعظم النّاس مهيّئون للتّعامل مع المحن العابرة أو الألم الّذي يعاني منه أصدقاؤهم ولتوفير المساعدة بالتّعاطف. هذا ما وفّره أصدقاؤنا لعائلتي في اليوم الّذي تعرّضت فيه للسّرقة.

ولكن ما الذي يحصل عندما تكون مضطّراً لمواجهة الألم والحزن في كلّ يوم عمل؟ ما الّذي يحصل عندما تكون طبيباً أو ممرّضاً أو عاملاً اجتماعياً أو مسعفاً، وتصبح الأعمال الرّحيمة جزءاً من عملك؟ يدرّب العاملون في قطاع الرّعاية الصّحّيّة و العاملون الاجتماعيون على التّعامل مع التّقمّص العاطفيّ وعلى المحافظة على مسافة مهنيّة. سألت صديقة لي ممرّضة هذا الصّباح عن كيفيّة درئها لبداية الشّعور بالإرهاق من الرّحمة ،فردّت قائلة: “الحواجز ،الحواجز ،الحواجز!” هذه الحواجز هي الّتي سمحت للطّبيب والممرّضات في كيسر بتوفير مساعدة رحيمة لي دون تقمّص عاطفيّ زائد وهذا أمر جيّد لهم.

ولكنّ البشر كما نعرف ليسوا رجالاً آليّين ،وهناك كمّ هائل من الاًبحاث الّتي تقترح أن التّقمّص العاطفيّ الجسديّ – وهو التّقمّص العاطفيّ اللاإراديّ واللاوعي الّذي نشعر به في داخلنا – هو عامل رئيسيّ في التّسبب بالإرهاق من الأعمال الرّحيمة، وهي حالة ذهنيّة نصبح فيها أقلّ وأقلّ قدرة على مساعدة الآخرين بسبب الخوف من إيذاء أنفسنا. نحن نتكلم عن عمليّات طبيعيّة – وهي الرّحمة والتّعاطف – تستعمل مرّة تلو مرّة في حالات اصطناعيّة متكرّرة بشكل كبير.

مثل هذا النّوع من العمل سينهك حتّى أقوى الأشخاص، خاصّة خلال مثل هذه الأوقات الّتي يقتطع فيها من الميزانيّات وتستهلك فيها الموارد، ومنها الموارد البشريّة، إلى أقصى حدّ، ويعتمد فيها الأشخاص البائسون أكثر من أيّ وقت مضى على البنيّة التحتيّة للرّعايّة كخدمات الجامعة الصّحّيّة. إنّه في مثل هذه اللحظات التّاريخيّة يحصل أن يصبح الإرهاق من الرّحمة تهديداً حقيقيااً، ليس فقط على مهن مثل التّمريض، بل على المجتمع بأسره.

تشارلز غارفيلد هو مستشار لمجلة الخير الأعظم وأستاذ عياديّ في علم النّفس في كليّة الطّبّ في جامعة سينسيناتي، ومؤسّس مشروع شانتي، وواحد من أوائل منظّمي مجتمع مرضى الإيدز في العالم، ومختصّ في الرّحمة والإرهاق النّاتج عنها. يشرح تشارلي في كتابه “أحياناً يصاب قلبي بالخدران” أعراض وعواقب الإصابة بالإرهاق بسبب الرّحمة: الاكتئاب والقلق والوسواس والعدائيّة والشّعور بأنّك تعمل بسرعة زائدة وعدم القدرة على التّركيز.

ويكتب أنّ مقدّمي الرّعاية يعبّرون عن صعوبة أكبر وأكبر في التّعامل مع مشاعرهم، فالحزن والقلق يعصفان بهم، والصّور الشّبيهة بأفلام فيليني تقتحم نهارهم وليلهم، والذّكريات المؤلمة تغرق عالمهم خارج مضمار الرّعاية الصّحّيّة.

إذا كنت تعاني أيّاً من هذه الأعراض فإنّ تشارلي يوحي بطلب مساعدة إخصائيّين والانسحاب من مضمار الرّعاية الصّحّيّة كليّاً. وبالنّسبة لمقدّمي الرّعاية الّذين لا يشعرون بأنّهم يستطيعون، عادة بسبب كون هذا هو مصدر رزقهم أو لانعدام وجود شخص آخر لتقديم الرّعاية، فإنّ تشارلي يذكّر القارئ أنّ “مقدّمي الرّعاية المختلّين وظيفيّاً بإمكانهم تعريض رعاية أحبّائهم ومراجيعهم للخطر” .ولكن ماذا عن أولئك  الّذين ليسوا على أقصى حوافّ الإنهاك، ولكنّهم يشعرون ببداية الخدران النّفسيّ أو يرون دلائل على الإرهاق من الرّحمة في أنفسهم أو لدى أشخاص آخرين؟

تمّ الاعتراف بالإرهاق من الرّحمة حديثاً فقط، حيث ابتكر س.ر. فيجلي هذا المصطلح عام 1995، وبدأت الأبحاث والتّنظير المتعلّقان به حديثاً أيضاً. وقد قام فريق من الباحثين في عدد الشّهر الماضي من مجلّة الصّحّة النّفسيّة بمسح لسبعة وخمسين دراسة مختلفة أجريت على الإرهاق من الرّحمة بين مقدّمي الرّعاية لمرضى السّرطان، وتوصّلوا إلى أنّنا حاليّاً نكاد لا نعرف شيئاً عنه، وإلى أنّ “هذه النّتائج تسلّط الضّوء على الحاجة إلى فهم أكثر وضوحاً للعلاقة بين الحساسيّة العاطفيّة لأخصائي الرّعاية الصّحّيّة وقابليتهم للإصابة بالإرهاق العاطفيّ”.

ومع ذلك فإنّني صدمت وأنا أراجع الدّراسات السّابقة على الموضوع من حقيقة أنّ مسألة التّحكّم بالإرهاق من الرّحمة هي أمر يتعلّق بالخيارات الصّحّيّة وتحكيم المنطق فقط. والسّؤال الصّعب حقّاً هو عدم اتّخاذنا هذه الخيارات الصّحّيّة في الغالب.

ماذا بإمكاننا أن نفعل إذن؟ أوّلاً اعتن بنفسك. اقض عطل نهاية الأسبوع ووقت فراغك في ممارسة أعمال تستمتع بها، تناول طعاماً صحّيّاً، اقرأ روايات، تنزّه مشياً على الأقدام. إذا كنت تعاني من الظّلام فابحث عن الضّوء أينما أمكنك إيجاده. أظهر الرّحمة لنفسك بأن تحدّد المعاناة في نفسك وتعمل على تخفيفها. وهذا مختلف عن الشّفقة على النّفس والّتي نرى فيها المعاناة في نفوسنا ولا نفعل شيئاً حيال ذلك، بل فقط نشعر بالأسى على أنفسنا. أمّا في حالة الرّحمة مع النّفس فإنّنا لا نسمح للمعاناة أن تحدّد شخصيّاتنا، بل نحدّدها بمواجهة المعاناة.

بعد ذلك يأتي الوعي البسيط، فمجرّد إدراكنا لوجود شيء مثل الإرهاق من الرّحمة يساعدنا على منعه وعلى التّعامل معه عندما نصاب به. نستطيع تذكير أنفسنا وبعضننا البعض بأن نحافظ على مسافة معيّنة من مرضانا ومراجعينا، وبأن نتذكّر أنّ ألمهم هو ليس ألمنا وبأنّنا لم نتسبّب به، وبأنّنا نستطيع مساعدتهم بالشّكل الأفضل عندما لا نشاركهم حزنهم. ومهما كان الأمر سيّئاً فإنّنا نستطيع دائماً أن نجعله أفضل، حتّى لو كان ذلك يعني أن نساعد أحدهم على تقبّل المحتوم.

توصي المعالجة النّفسيّة رابيت روثتشايلد في كتابها الرّائع “مساعدة للمُساعد” بممارسة يقظةٍ لمقدّمي الرّعاية الصّحّيّة. ولكنّكم تعلمون أنّني ولدت وترعرعت في السّاحل الشّرقيّ والوسط غربيّ وأنّني لطالما كنت مشكّكاً عندما يتعلّق الأمر بممارساتٍ كاليقظة. ولكنّني خلال عملي في المركز العلميّ للخير الأعظم فإنّني رأيت دراسة تتلوها دراسة تجريبيّة تظهر أنّها تجدي نفعاً في التّحكّم بالضّغط النّفسيّ والخوف والإجهاد. حتّى أنّك ترى ممارسات تشبه اليقظة إلى حدّ كبير تظهر بأشكال مختلفة في التّدريبات العسكريّة والشّرطيّة، حيث تستخدم اليقظة الجسديّة للتّحكّم بالخوف في حالات إطلاق النّار.

إنّ هذا ليس تدريباً على اليقظة وأنا لن أدخل هنا إلى أيّ عمق، ولكنّ الفكرة الرّئيسيّة من ممارسة اليقظة هي أنّك تركّز باستمرار على اللحظة الحاليّة وتراقب الّذي يحصل في جسدك. ومن الواضح أنّ هذه طريقة رائعة للتحكّم بالتّعاطف الجسديّ الأوتوماتيكيّ الّذي يساهم في التّسبّب بالإرهاق من الرّحمة. وإذا كان مفهوم اليقظة جديداً عليك فإنّني أوصي بأن تحضر النّدوة الّتي تستضيف فيها مؤسّسة الخير الأعظم داتشر كيلتنر وجون كابات-زين في اليوم الخامس عشر من أيّار، أو أن تقرأ كتاب رابيت روثتشايلد.

هناك خطوة أخيرة أود تسليط الضّوء عليها، وهي الأهمّ، ألا وهي التّحدّث مع أشخاص آخرين وتكوين مجتمع من الرّحمة حولك. وهذا أمر لسنا بارعين فيه نحن الأمريكيّون. هل تتذكّرون كيف أنّني لم أرد أن أرنّ جرس بيت جاري؟ أليس هذا غريباّ؟ ها أنا ذا مصاب وأنزف ولا أريد أن أزعج أحداً بطلب المساعدة! ألا يبدو ذلك جنونيّاً؟ لقد كان جنونيّاً بالفعل.

ومع ذلك فإنّه يحصل كلّ يوم. نحن نعيش ثقافة الفرد ونقصف برسائل ثقافيّة فحواها أنّ من الخطأ أن تحتاج مساعدة وأنّ الرّحمة هي للأغبياء فقط، وهذا يجعل من طلب المساعدة عندما نحتاجها أمراً صعباً. نحن نخاف من قابليّتنا للتّعرّض للأذى. هذا ينطبق عليّ وعلى الأشخاص في مهن العون والعلاج. معظم الآلام ليست خارجيّة، بل إنّها داخليّة وغير مرئيّة، ونحن نعاني منها بصمت. ولكن ليس علينا ذلك، فأحياناً يلزمك فقط أن ترفع رأسك وتدقّ جرس الباب، ولعلك تكتشف رحمة أكثر ممّا كنت تتوقّع .

 

 

 

ترجمة : نهاد عدنان

تدقيق : أمير محمد

تدقيق لغوي : راما الشامي

تنسيق : جوني

إقرأ المزيد من المقالات الممتعة والمفيدة :

هل النساء أكثر انسانية من الرجال؟

العلاج بالمسامحة

هل النساء أكثر تعاطفاً من الرجال؟

دراسة حديثة | وصفة لطول العمر .. لا للتدخين , و نعم للكثير من الأصدقاء !