(قصة قصيرة ضمن سلسلةٍ من أربع حلقات تفسر عمل الذاكرة)
– أسمعتِ بالحديث الذي دار في دهاليزك؟ قالت المخيّلة تسأل الذاكرة.
– لقد سجّلت ما دار كلمةً كلمة. أكنتِ تخشين من أي يفوتني شيءٌ منها؟! أجابت الذاكرة بثقة.
– فهل علمتِ بما لي من فضل عليك؟ سألتها ثانيةً بخيلاء.
– إنما فضلك على صاحبنا فؤاد. لأن الذاكرة لا يفوتها تسجيل شيءٍ، غير أن المخيّلة تساعد العقل على الوصول إلى المعلومات المشفّرة في دهاليز الذاكرة الطويلة.
– وهل تنكرين فضلي في ربط المعلومات ببعضها من أجل حفظها في سجلاتك؟
– أعترف أن الإنسان لا يتذكّر المعلومات المفكّكة. الذاكرة والمخيّلة صنوان لا ينفصمان. تتحسن الذاكرة حين تتسع المخيّلة. القليل من الناس خبِروا كيف يطوّرون ذاكرةً جيدة. ولأن أكثرهم يفتقر للذاكرة المرنة، فإنهم يعانون من صعوبةٍ في التعلّم. ما يتم حفظه غيباً غالباً ما يكون هشاً سريع النسيان. فإنْ عجز الإنسان عن فهم شيٍ فلن يتذكره، وإن عجز عن تذكره فلن يتعلّمه. وما عملية التعلّم إلا سلسلة متوالية من الحلقات التي تربط ما سبق تعلّمه بما هو مستجد.
– يستطيع صاحب الذاكرة السليمة، تحويلها وتطويرها وتوسيعها بخياله. قالت المخيّلة بغرور. وكلّما كان الإنسان مبدعاً في تفكيره خصباً في مخيّلته، وفي توظيف حواسه وأحاسيسه، سهُل عليه تذكّر ما مرّ به.
– لا أنكر ذلك. يقوم العقل دون الواعي بتشفير وأرشفة بيانات الذاكرة المؤقتة إلى أدراج الذاكرة الطويلة، وما لم تأتي مدخلات الحواس إلى العقل دون الواعي (المتحكم بالذاكرة الطويلة) مروراً بالعقل الواعي (المتحكم بالذاكرة المؤقتة)، وليس إلى العقل دون الواعي مباشرةً، يستعصي الوصول إليها بالعقل الواعي وحسب. ولكن مع تحسّن أداء الذاكرة، يمكنها نقل معلومات العقل الواعي إلى دون الواعي بسرعةٍ أكبر.
اقرأ أيضاً : محاورةٌ في دهاليز الذاكرة الطويلة
– فما رأيكِ في قولهم أن الإنسان لا يتذكر الأشياء، بل تعيد المخيّلة تأليفها؟
– يتولى العقل الواعي استرجاع أرشيف الذاكرة الطويلة معتمداً على كفاءتك في ربط البيانات المتوفرة وخلق حقائق جديدة لا وجود لها. ولكن هذه العملية تخضع لمزاج الإنسان ومشاعره ونادراً ما تتمّ بنزاهة.
– أتعنين أنني قد اختلق مالا وجود له؟ سألت المخيلة مستغربةً تقليل الذاكرة من دورها: أوَ تجرئين على اتّهامي وتنسين ما لي من فائدة عظيمة في مجال الإبداع؟ أنسيتِ أني أعيد تأليف الذاكرة من خلال فتح طرقٍ متشعّبة تتمتع بالقدرة على التمدّد في شتى الاتجاهات؟
– لم أنسَ ذلك صديقتي. فحين يقوم العقل دون الواعي باستدعاء معلومةٍ ما خلال النوم، يقوم الدماغ بإطلاق البيانات في جميع الموصلات العصبية الشبكية التي قمتِ بفتحها وفي الوقت نفسه بشكل انفجاري. ولمّا يستيقظ الإنسان، تزدحم صور الذاكرة أمام عينيه ويتردد في سمعه أصوات من أعماقها. ولذلك أهمّية بالغة في تحقيق الإبداع.
– وهل غاب عن بالك قيام بعض أكثر الناجحين بالاستفادة من هذه الميزة للعقل دون الواعي؟ فبينما كان بالثزار (Balthasar) يفكر في إبداع آلة الخياطة، عجز عن إتمام ربط عقدة الخيط آلياً، حتى رأى في المنام فتحة الإبرة في رأسها، بعكس ما ألفه الناس منذ آلاف السنين. ولولا مخيلته الواسعة وتحرّره من إملاءات الوعي وقيوده لما توصل إلى اختراعه.
– فكذلك حين يُحسن الإنسان الاستفادة مما أودعه الله فيه من طاقات، فيستثمرها ويوظفها بدل أن يهملها ويزهد بها، فإنه يفتح لنفسه أبواباً لا حدود لها من الإبداعات. وذلك حديث يأتي أوانه بعد أسبوع.
وفيما كان فؤاد يحاول استيعاب ما جال بينهما، خلد إلى النوم عسى أن يربط عقله دون الواعي البيانات ببعضها، فلعل ذلك يعينه في حلّ ما أشكل عليه فهمه ذاك المساء.
اقرأ أيضاً : رحلة إلى أخاديد الذاكرة المؤقّتة (قصّة تعليمية قصيرة)