عند سماع الموسيقى؛ يقوم العقل بأكمله بالعديد من النشاطات، ومهما اختلفت الحضارة واللغة؛ فإن تأثير الموسيقى يبقى إيجابيّا، لكن هل ثؤثر حقًا الموسيقى على الذكاء؟
هناك خرافة ارتبطت بزيادة معدلات الذكاء، والتي سعت إليها المشاريع التجارية من خلال الترويج للموسيقى الكلاسيكية.
اعتاد الناس على اللجوء للطرق السهلة لزيادة معدل ذكائهم وذكاء أطفالهم، لذلك يظلوا متلهفين لمعرفة أقصر وأسهل الطرق لزيادة معدلات الذكاء؛ وهذا ما استخدمه كتاب علم النفس “تأثير موزارت”، حيث ذكر أن الموسيقى لها قوة خاصة لشفاء الجسم، وتعزيز العقل والروح الإبداعية.
كما يناقش الكتاب نظرية أن الإستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية له العديد من الآثار المفيدة على وظائف العقل، وزيادة معدلات الذكاء، وضرورة لعب الموسيقي أو تشغيلها للرضع لأنها تزيد من نموهم العقلي.
للأسف تهافت العامة على الكتاب وسعوا إلى شرائه، وتصديقه، والعمل به، لكن ما ذكر هو خرافة لا أساس لها من الصحة.
كيف ذلك؟
في عام 1993 نشرت مجلة «نيتشر -Nature » ورقة بحثية مبنية على تجربة؛ وجدت أن طلاب الجامعات أدوا بشكل أفضل في الإختبارات عند الإستماع لموسيقى موزارت، عندها اشتعلت وسائل الإعلام مع هذا الخبر بعناوين مبالغ فيها مثل: الإستماع لموزارت يجعلك أكثر ذكاءً؛ أخبروا الجميع بذلك.
لسوء الحظ ليس هذا ما قالته نيتشر؛ حيث أوضحت المجلة أن اختبار الطلاب كان قائمًا فقط على الذكاء اللحظي قصير المدى، وأن اختبارات كطي الورق، أو حل المتاهات جميعها تعمل على تحسين نوع واحد من الذكاء ولا تمتد إلى أنواع أخرى. كما استمرت التحسينات حوالي 15 دقيقة فقط وهذا ليس ثأثير طويل المدى.
بعدها صدر كتاب دون كامبل “تأثير موزارت”؛ وناقش قوة الموسيقى لتعزيز معدلات الذكاء العقلي دون الإستناد لأي أبحاث حقيقية.
للأسف ظهور الكتاب مع مداهمات الإعلام قد خلف انطباع بأن الإستماع لموسيقى موزارت أو الموسيقى الكلاسيكية بوجه عام هو آلة سحرية لزيادة معدلات الذكاء، وتحسين التركيز والذاكرة، وتعزيز العمليات الإبداعية، ومهارات التفكير.
واستغل الإعلام ذلك للترويج لاسطوانات الموسيقى الكلاسيكية، وأخذ الناس في الشراء، وتصديق تلك الخرافة. كما أعلنت بعض الهيئات الحكومية في بعض الولايات بالولايات المتحدة؛ أن كل مولود جديد لابد أن يتسلم أقراص مدمجة وآلات لتشغيل ذلك النوع من الموسيقى لزيادة معدل ذكاء الأطفال.
اقرأ أيضاً: الموسيقى غذاء الروح والفكر
الحقيقة العلمية
يقف العلم الحقيقي في وجه ذلك الهراء كله؛ حيث أثبتت الأبحاث الجادة أن الموسيقى ليس لها تأثير على القدرة المعرفية أبدًا. ففي عام 1998 قام «كريستوفر شابريس» من جامعة هارفارد أثناء دراساته العليا؛ بعمل دراسة حول تأثير موسيقى موزارت والموسيقى الكلاسيكية على معدلات الذكاء والإدراك على 16 شخص على مدار خمس سنوات.
عند تحليل النتائج؛ وُجد عدم ظهور أي تغير حقيقي في معدلات الذكاء، أو القدرة على التفكير، كما أن التعزيزات الإدراكية كانت صغيرة جدًا في تعلم مهارات محددة دون أي دلالة إحصائية في آداء اختبار للشخص الواحد. كما كانت تلك التعزيزات لحظية ولا تستمر على المدى الطويل؛ وتنتهي في فترات زمنية قصيرة جدًا.
في عام 1999، قاد فريق من الباحثين تحدٍ ضد خرافة “تأثير موزارت” في عدة ورقات علمية نُشرت معًا في نفس التوقيت؛ أوضحوا فيها أن التأثير المعرفي للإستماع لهذا النوع من الموسيقى لحظي وصغير جدًا، ولا يعكس أي تغير في الذكاء أو القدرة على التفكير بشكلٍ عام.
وبدلًا من ذلك؛ تتركز التأثيرات بشكلٍ كُلّي على نوع واحد من المهام المعرفية ذات التأثير العصبي البسيط طبقًا لنظرية “التمتع بالإثارة”؛ وتفيد تلك النظرية أنه عند استمتاعك بما تفعله أو تسمعه؛ فإن لذلك تأثير على المهام العقلية البسيطة، حيث يعزز من كفاءة القيام بها، لكن التأثير يظل لحظيًا، ولا يؤثر على الذكاء في شيء. على سبيل المثال: يمكنك الإستماع لموسيقى موزارت، أو مقطع من قصة ستيفن كينج إن كنت تستمتع بما تسمعه.
كما شاركت الهيئات الحكومية في التحليل؛ حيث أوضح تقرير ألماني أن الإستماع السلبي لموزارت أو أي أنواع أخرى من الموسيقى الكلاسيكية، لا يجعلك أكثر ذكاءً؛ لكن يمكن إجراء المزيد من الدراسات لمعرفة ما إذا كانت دروس الموسيقى يمكنها رفع معدل ذكاء طفلك على المدى الطويل أم لا؟
إذًا ما تأثير الموسيقى الفعلي على العقل؟
إذا كنت تستمتع بسماع الموسيقى الكلاسيكية؛ فإن لها بالطبع تأثيرات لحظية على المهام العصبية البسيطة؛ فكيف يتم ذلك؟
الإستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية مع استمتاعك بها؛ قد يساعد على إفراز بعض الهرمونات التي تحفز الشعور بالسعادة والإسترخاء، مما يجعلها تحفز إنتاج بعض المستقبلات العصبية؛ كالسيروتونين والدوبامين بصورة أكبر، ومنع تسلل ذلك الشعور الذي يعوق قدرة التفكير العملي الذي يستخدمه الأشخاص طوال الوقت.
يطلق على هذا النوع من التفكير اسم “الذاكرة العاملة”؛ وهو نظام الذاكرة قصيرة المدى التي تعمل دائمًا على معالجة البيانات المطلوبة لأداء العديد من المهام اليومية، والإحتفاظ بها، واستدعائها في نفس الوقت.
ومن أجل أن تؤدي الذاكرة العاملة وظيفتها بكفاءة عالية؛ يجب التركيز وإبعاد أي محفز يؤدي إلى تشتت الإنتباه. تلك المستقبلات العصبية لها تأثير في خفض الضغط، والشعور بالإسترخاء، والحد من التوتر، وتقليل معدلات القلق، والذي يؤدي بدوره إلى تقليل الإكتئاب، وزيادة رغبات الفرد الحياتية.
أيضًا يعطيك شعور جميل بالسعادة والإثارة؛ والذي يعمل على إعطاء تأثير لحظي على أداء المهام العقلية البسيطة، وتعزيز الذكاء على المستوي اللحظي.
إذًا الإستماع إلى الموسيقى له تأثير جمالي ونفسي على المستمع، لكن للأسف استخدام الإعلام، والمشاريع التجارية، والعلوم الزائفة للترويج لأي فكرة؛ يعمل على التسبب في خلق فهم خاطيء، والذي يؤدي إلى وجود مشاكل فيما بعد.
في النهاية؛ تحتل خرافة “تأثير موزارت” الرقم السادس في كتاب الخرافات العظمى من علم النفس الشعبي. وعلى العموم؛ لا يوجد شيء خاطئ في الإستماع إلى الموسيقى، لكن هذا لن يجعلك أكثر ذكاءً.
اقرأ أيضاً: العلاج بالموسيقى في الطب العربي …